رسالة الشيخ سفر الحوالي إلى علماء السعودية (3)
1991/10/06م
المقالات
2,477 زيارة
بعد احتلال العراق للكويت (02/08/90) حصلت ارتباكات عند علماء السعودية. حكومتهم تطلب منهم اصدار الفتاوى بالاستعانة بالجيوش الأجنبية (الأميركية)، وهم يروْن أن هذا حرام. وقد حضعت أكثرية العلماء لأوامر الملك. ولكن نفراً من هؤلاء العلماء التزموا بالشرع وخضعوا لأوامر الله وليس لأوامر الملك التي يتلقاها من بوش.
من هؤلاء النفر فضيلة الشيخ سفر عبد الرحمن الحوالي الذي صار يلقي الخطب محذراً الناس والحكام والعلماء من المكائد الفظيعة. ولكن جاء تحذير من الحكومة بأن يلزم جانب الصمت. فقام فضيلته بكتابة رسالة مطولة (115 صفحة) وقدمها إلى العلماء (قبل 15/10/90) يبيّن لهم فيها واقع الخطر المحدق. انه لا يشرح لهم الأحكام الشرعية لأنهم يعرفونها، ولكنه يشرح لهم الواقع، أي مناط الأحكام الشرعية، ويبيّن لهم أن الأمير ليس استعانة من السعودية بأميركا وحلفائها بل هو احتلال أميركي للسعودية والخليج شاءت السعودية أم لم تشأ.
وكان المفروض أن تبقى هذه الرسالة ـ النصيحة متداولة بشكل سري بين العلماء بناء على أمر الحكومة. ولكن شاءت حكمة الله أن تنتشر هذه الرسالة وأن يتداولها الشباب والطلاب والأساتذة بشكل كبير.
ولما رأت «الوعي» أن هذه الرسالة قيّمة جداً وتلقي الضوء بشكل واع وواضح على واقع ما جرى وما يجري نحو الخليج والنفط والإسلام والعالم، لما رأت «الوعي» ما في الرسالة من خير رأت أن تنشر بعض الفصول منها خدمة للإسلام والمسلمين.
وفيما يلي كلام فضيلة الشيخ سفر ـ حفظه الله ـ:
خطة أميركا
صرح وزير الدفاع الأميركي في 30/02/1411 (19/09/1990) أن الولايات المتحدة قد أغلقت 150 قاعدة في أوروبا نهائياً ونقلتها إلى الخليج!! بعد أن ظلت هناك 45 سنة!! [وفي يوم السبت 05/02/1411 ذكرت إذاعة لندن عن إحدى الصحف البريطانية المعارضة قولها: «من المحتمل أن تتحول الأزمة في الخليج إلى حرب مسيحية إسلامية ويكشف القناع عن نفاق الغرب ذي الوجهين»!!].
وعندما سئل عن مدة بقاء القوات في السعودية قال: «لسنا على استعداد أن نأتي كل عشر سنوات لحل مشكلات المنطقة؟ وأضاف أن ذلك مرهون باستقرار المنطقة!
كما أطلق بيكر وزير الخارجية تصريحات مماثلة منها ما نشر في جريدة الشرق الأوسط في 13/12/1411هـ، وأعقب هذا إعلان بوش عن إرسال 150 ألف جندي أميركي آخرين إلى السعودية إضافة إلى ربع المليون الذين وصلوا من قبل متذرعاً بالحجة نفسها: ضمان الردع والاستقرار؟
ومن العجب أن يجري هذا ويزداد الموقف الأميركي تصلباً مع الإعلان عن تراجع العراق وليس موقفه ومع تعاطف فرنسا وروسيا ـ التظاهري ـ معه واستبعادهما لفكرة الحرب، دون اعتررضهما على الحشود العسكرية الهائلة! إنها أدوار موزعة والضحية واحدة!!
وهنا نسأل أصحاب الفضيلة: أَمِنْ أجل استعادة الكويت أو إعانة السعودية يتم كل هذا؟
أَمِنْ أجل اختلاف العراق والكويت على الحدود توضع خارطة جديدة للمنطقة من إيران حتى موريتانيا؟ خارطة عسكرية واقتصادية وسياسية ـ وتسحب الجيوش من أوروبا وتوطَّن في هذه المنطقة؟ أم أن ذلك جرى وفقاً لمقتضيات النظام الدولي الجديد الذي رسمت صورته قبل غزو العراق بسنين وتحت ستار استقرار المنظقة؟
ثم ألا ترون أن الحملات الإعلامية بين دول المنطقة وافتعال المشكلات وتضخيم المؤامرات المتبادلة يصب نحو الهدف الأميركي، أعني عدم استقرار المنطقة ويعطي الغرب المبرر للبقاء طويلاً لضمان استقرارها بزعمه؟
وإذا كان كذلك، فما دوركم مع علماء المسلمين الآخرين في هذا؟ وكيف ترون الحل وهل يسع علماءَ الإسلام السكوت وأمتهم تنحدر إلى الهاوية؟
وهل يليق بعلماء الإسلام أن ينقسموا بحسب حكوماتهم فيفتي علماء الدول المستعينة بالكفار بجواز الاستعانة ويفتي علماء الدول المخالفة لذلك بتحريمها؟ وألف وخمسائة مليون مسلم يتساءلون: الحق مع من إذن؟
وقد تسألونني عن تصوري لهذا النظم وهذه الترتيبات الأمنية فأقول:
أن الغرب يبني أموره عادة وفق خطط ذات احتمالات عدة وتحسب الحساب للمفاجآت وما يَجِدُّ في صعيد الواقع. وعليه يصعب التحديد الدقيق المجزوم به، لكن نستطيع استنتاج الملامح العامة والأهداف الكبرى، ومنها:
1- سحق أية قوة إقليمية في المنطقة سواء كانت قوة عسكرية كالعراق أو اقتصادية كدول الخليج أو سكانية كمصر، وفق خطط مرسومة وباجماع غربي متستر بالإجماع الدولي.
2- ربط دول المنطقة ضمن منظومة تحالف أمني قد يشمل إيران وتركية وباكستان، فقد صرحت مصادر استراتيجية أميركية أن «سياسة العمودين» لم تعد كافية حتى مع تغيير العمودين الحاليين إلى العمودين المقترحين «سورية وإسرائيل» وأن المستقبل سيشهد سياسة «القوس الكبير» الممتد من باكستان حتى مصر ـ إن يصل إلى موريتانيا، كما عبر بعضهم. وهذا القوس يدمج مع الوضع النهائي الذي سيكرون عليه حلف وارسو والناتو بشكل ما أي سيكون مرتبطاً بالتحالف الغربي عامة وتحت الهيمنة الأميركية خاصة.
فأما إسرائيل فهي حليف استراتيجي قديم، وهي مع مقتسمي الغنيمة لا مع الضحايا، وسوف تظل محتفظة بكل قوتها حتى الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، بل سوف تكون مستودعاً آمناً للمعدات العسكرية الغربية مع إتاحة الفرصة لها لاستخدام الأسلحة نفسها.
وأما تركية فقد أعلنت أنها بصدد إعادة تقييم استراتيجيتها العسكرية باعتبارها عضواً في الناتو لكي تصبح الأولوية موجهة إلى الشرق الأوسط بدلاً من الاتحاد السوفياتي [صرح بذلك رئيس الأركان التركي كما في الدستور تاريخ 19/03/89 ومما يجب التذكير به الزيارة التي قام بها رئيس وزراء تركية لإيران وقد أعلن فيها رفسنجاني ترحيبه بالزيارة وأصرّ على أهمية التحالف الثلاثي للجارات الثلاث باكستان وإيران وتركية (وذلك في شهر رجب 1410هـ)] ومع أن في تركية ما يقارب عشرين قاعدة للحلف ملآى بأحدث ما وصلت إليه التقنية الأميركية من أجهزة الرصد والإنذار والاتصال والطائرات بل حتى المستودعات النووية (كما نشرت الحياة في 29/ شعبان 1410هـ).. الخ.
فقد تضاعف الوجود الأميركي فيها بعد الأزمة، بالذريعة نفسها: «تطويق العراق» وقام رئيسها بنشاط ملحوظ في الأزمة وما يزال، ويحرص الغرب على إثارة مشكلة مياه الفرات بينها وبين العراق وسورية لتظل المنطقة غير مستقرة أيضاً.
وأما إيران التي لا يماثلها في مفاجآتها السياسية إلا صدام فقد فاجأ رئيسُها العالمَ في خطبة الجمعة المشار إليها سلفاً (في أول شعبان 1410هـ) بالموافقة على جدول أعمال السلام مع العراق والإقرار بحقوق العراق ومنها حق استخدام الخليج. ثم انتقد مواقف القوى الكبرى من محادثات السلام واصفاً إياها بأنها مواقف متضاربة وقال: «من ناحية تريد هذه القوى استمرار حال اللاسلم وللاحرب لتبرير وجودها العسكري، وتواصل مبيعات الأسلحة للمنطقة، ولكن من ناحية ثانية أن منطقة الخليج الغنية بالنفط مهمغلى درجة وجود نار مشتعلة تحت الرماد فيها يثير قلق القوى الصناعية».
فهي إذن على علم باللعبة الدولية، وصلحها مع العراق يأتي ضمن أطماعها من الغنيمة، ولذلك أعلن وزير دفاعها أن حكومته خصصت 10 مليارات دولار في السنوات الخمس القادمة لتحديث الجيش الإيراني لمواجهة ما اسماه «التغييرات الجارية ولا سيما في البلدان المجاورة»!!
إنها بداية تشكيل القوس خلفاً لحلف بغداد!!!
ولكن ليست المشكلة هنا فحسب بل لها جانب آخر خفي أشارت إليه بعض المصادر الأميركية أثناء أحداث أذربيجان حيث تحدثت عن تفكيك الامبراطورية السوفياتية مقترحة ضم المناطق الشيعية إلى إيران وضم المناطق السنية إلى تركية وضم أفغانستان إلى باكستان!!
فإذا ضممنا هذا إلى عمود التحالف الذي يراد انشاؤه بين دول الخليج وأميركا من جهة وبين عمود التحالف الآخر (مصر ـ إسرائيل ـ سورية) من جهة أخرى وضممنا إليه ما نادى به بعض مخططي السياسة الأميركية من إعطاء إيران ـ الثورة الأفضلية بدلاً من العراق ودول الخليج (كما ورد في الخيارات السابقة. أنظر «الوعي» العدد 52 ص9) مستندين في قولهم إلى أن مناطق النفط تسكنها غالبية شيعية ـ إذا تصورنا ذلك أدركنا خطراً كبيراً يهدد المنطقة في حالة تدمير العراق واحلال التحالف الشيعي محله (إيران ـ سورية ـ العراق الذي سيصبح دولة شيعية خاصة بعد فصل الأكراد، ثم بقية المناطق الخليجية كالبحرين والإمارات وشرق السعودية ـ والوجود الشيعي واضح فيها، ولا ننسى أن نذكر أن كثيراً من الناطقين بالعربية في جنوب تركية من النصيرية أيضا، أما باكستان فكثير من قادة جيشها الكبار شيعة ومعهم اخوانهم من القاديانية والبريلوية).
ارهاصات ونَذَر الأزمة
قبل أقل من أسبوعين من غزو الكويت نشرت مجلة Eir Feature مقالات في غاية الخطورة ننقل ترجمة بعض ما جاء فيها:
أولاً: مقال بعنوان: «القوى العظمى تعد لحرب شرق أوسطية. حل نهائي للمشكلة العربية».
قالت فيه:
«تخطط حكومات أميركا وروسيا وبريطانيا لحرب عربية إسرائيلية جديدة في الشرق الأوسط ويريد السوفيات والأميركان والانجليز قيام تحالف عسكري سياسي بين (إسرائيل وسورية) ليكون أمراً واقعاً وقوة لا تنافس في المنطقة. ويدور في أذهان السياسيين الانجلو ـ أميركيين والسوفيات ما مقاده أن الوسيلة المناسبة لقيام ذلك التحالف وتدعيمه كقوة إقليمية تهيمن على المنطقة هو نشوب حرب في المنطقة، ورغماً عن صدور بعض الإشارات والدلالات البعيدة عن هذا الهدف إلا أن السياسات الانجلو أميركية سوفياتية كانت تستهدف منذ مدة طويلة قيام دولتي إسرائيل الكبرى وسورية الكبرى وتهيئتهما لتصيرا قوى إقليمية كبرى في منطقة الشرق الأوسط».
وتعرضت المقالة لبعض أهداف الحرب فقالت:
«أن هذه الدول تأمل في حدوث أزمة بترولية جديدة كتلك التي حدثت في عام 1976 وذلك لأن ارتفاعاً سريعاً في أسعار النفط سيفيد السوفيات فائدة عظيمة خاصة وهم يعتمدون على النفط مع بعض المنتجات القليلة الأخرى في تأمين احتياجاتهم من العملات الصعبة. وسيجعل هذا الارتفاع الحاد الأسعار مسألة تطوير وتنمية حقول النفط البريطانية في بحر الشمال ذا جدوى اقتصادية وفي المقابل سيضع ضغوطاً هائلة ألمانيا واليابات البلدين المعتمدين اعتماداً كلياً على استيراد النفط». [وهما البلدان المنافسان لأميركا اقتصادياً، وهي لن تخسر شيئاً لأنها ستحصل على ما تريد من النفط بأسعار معتدلة بموجب عقود طويلة الأمد مع الدول المنتجة في الخليج أما مكاسبها العسكرية فهي ما يشهد له الواقع دون حاجة إلى تفصيل].
«وربما كان أحد أهم أهداف الحرب هو خلق سابقة استخدام الأسلحة الكيماوية والنووية، وفي هذا الخصوص يجب عدم تجاهل المؤسسات العنصرية السوفياتية والبريطانية والأميركية التي تنظر بقلق شديد نحو التكاثر السكاني العربي وتعتبر هذه الحرب الناشئة حرباً سكانية ذات تأثيرات مأسوية مفجعة خاصة ما يصيب منها السكان المدنيين عقب الحرب».
وتمضي المقالة تقول:
«الأهداف المحددة لهذه الحرب كما وردت في اتفاقية تدعيم المحور (الإسرائيلي ـ السوري) تتضمن إلغاء دور منظمة التحرير الفلسطينية والإطاحة بالملك حسين ملك الأردن وإذلال رئيس العراق صدام حسين وربما الإطاحة به. وعندما تتحقق هذه الأهداف فإن إسرائيل ستعمل على جعل الأردن وطناً للفلسطينيين الذين سيطردون من الضفة الغربية والقطاع، وستعمل سورية إلى ضم لبنان إليها، وستصبح الأردن مجرد دمية يتم إدارتها من قبل المحور (السوري ـ الإسرائيلي) وستكون الأردن نقطة الانطلاق لمغامراتهم العسكرية المستقبلية».
(يعني ضد العراق والسعودية).
ثانياً: وتحت عنوان: «العراق» تقول المجلة:
«العراق واحدة من الدول الموجودة لا تتناسب سياستها مع السياسة الإقليمية في المنطقة بالإضافة لعدائها مع كل من سورية وإسرائيل، ويقول الكثيرون أن من المحتمل أن يكون العراق أنسب نقطة لحرب شاملة. وبالرغم من تضخيم وسائل الإعلام الغربية للقدرة العسكرية العراقية فإن الجبهة الشرقية المكون من قوات عراقية أردنية مشتركة ليست كذلك. إذ تتمكن القوات الإسرائيلية من اختراق الخطوط العربية من فترة 2 ـ 3 ساعات بالمقارنة مع فترة ست ساعات التي استغرقتها القوات الإسرائيلية لاختراق الخطوط المصرية عام 67م، وستعمد القوات الإسرائيلية في باقي الفترة إلى تطهير الإقليم الأردني، ولن تحاول القوات الإسرائيلية التجاوز إلى عمق العراق أو دخوله مطلقاً حيث من المتوقع قطع خطوط القوات الإسرائيلية في الأردن إضافة إلى أن إسرائيل ليست لديها القدرة على التعامل مع المناطق العراقية المأهولة بالسكان، وربما ترى إسرائيل مناسباً توجيه ضربة عسكرية لحقول النفط العراقية شمال العراق..» الخ ثم انتقلت إلى الحديث عن الأردن فقالت:
«الأردن: أوضح بوش للملك حسين أنه لم يعد من المناسب وجوده حيث وصلت العلاقة بين الأردن وأميركا إلى أدنى مستوى لها. ويحتج بوش في موقفه العنيف هذا ضد الملك حسين بعلاقته الأخيرة القوية مع صدام حسين. إلا أن السبب الحقيقي هو حل المسألة الفلسطينية نهائياً وإلى الأبد».
وتقول:
«وبالنظر بشكل عابر للصحافة الأميركية والبريطانية يلاحظ أنه قد تم بناء الأساس الدعائي للحرب من خلال تصوير صدام حسين كبعبع في المنطقة وتولت وسائل الإعلام الغربية العزف على وتر التهديدات التي أطلقها صدام ضد إسرائيل وقامت هذه الوسائل في الوقت نفسه بالتغاضي عن التهديدات الإسرائيلية لمختلف الدول العربية».
ثالثاً: وفي مقال آخر تقول المجلة نفسها:
«إسرائيل تجهز لقيام حرب أخرى في منطقة الشرق الأوسط لإيجاد حل نهائي للمشكلة العربية… وهذا يعني فيما يبدوا الحرب ضد العراق ودول أخرى وتدمير الأردن».
وتسخر من مزاعم بوش أنه يسعى للسلام في المنطقة قائلة:
«هذا هراء فالولايات المتحدة ملتزمة بقيام حرب في الشرق الأوسط وربما كان الشيء الوحيد الذي لم يتحدد هو تاريخ اندلاعها، أما الإسرائيليون فهم مستعدون للحرب ولما يسمى بالحل النهائي».
وقالت: «ربما كانت هناك أو ستكون على الأرجح اتفاقات جديدة بين (القوى في إسرائيل وحافظ الأسد) أو شيء من هذا. وإذا ما تم وضع القضايا الهامشية جانباً فإن إسرائيل مبرمجة حالياً باتجاه الحرب والذين يقولون غير ذلك أما أغبياء أو كذابون، إن ذلك هو طبيعة المسألة وأصلها».
وفي الفاينانشيال تايمز نشر ما يشبه ذلك وترجمته مجلة «التضامن» في عددها 367 بتاريخ 03/12/1410هـ مع خارجة تفصيلية عن أحجام القوات في دول المنطقة وأوله «من العهود أن الرئيس المصري حسني مبارك هو رجل حذر وحريص وليس من أسلوبه المبالغة أو المزايدة ولذلك فهو حينما حذر هذا الأسبوع من احتمال وقوع حرب جديدة في الشرق الأوسط فإنه لفت أنظام العالم بأسره» ولم تنس الجريدة أن تذكر أن «التطرف الديني المطبوع بمعاداة أميركا» هو أحد المشكلات الكبرى في المنطقة، كما ذكرت أن من أهم موجبات الحرب «تعهد الجناح اليميني الإسرائيلي بتحويل الأردن إلى فلسطين وبطرد الشعب العربي من الضفة الغربية إلى الشرق عبر نهر الأردن».
وقبل الغزو أيضاً بحوالي عشرين يوماً عقدت ندوة بعنوان «المصالح الخارجية في الخليج العربي» في مدينة اكستمر البريطانية نشرتها الحياة بتاريخ 24/12/1410هـ، نظمها مركز دراسات الخليج العربي التابع لجامعة اكستر وكان أبرز المشاركين فيها ريتشارد مورفي النائب السابق لوزير الخارجية الأميركية ومستشار العلاقات الدولية حالياً، والبروفيسور فيتالي ناوومكين وهو خبير سوفياتي بارز بشؤون الشرق الأوسط.
أما الخبير السوفياتي فإنه كما ذكرت الجريدة لم يستبعد أن اجتماعاً محتملاً مقبلاً بين الرئيسين العراقي صدام حسين والإيراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني قد يعقد في موسكو لكنه دعا إلى عدم الإفراط في التفاؤل بأن منطقة الخليج ستكون في «مأمن من الصدامات في المستقبل المنظور». وأضاف: «أن تصادم المصالح بين القوى الإقليمية والقوى السياسية قد يؤدي إلى تجدد صراعات أخرى جديدة» ونفى الخبير السوفياتي إمكان وقوع حرب عربية إسرائيلية في هذه الظروف وبرر ناوومكين استبعاده للحرب بين إسرائيل والعرب بسببين الأول: هو أن «من الغباء» ـ بالنسبة إلى إسرائيل ـ أن تشن حرباً في ظل الأوضاع الجديدة في المنطقة حيث تتزاحم لدى طرفي النزاع كميات هائلة من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن يؤدي استخدامها إلى كارثة بشرية تحل بإسرائيل وهي لا تتحمل ذلك. السبب الثاني: هو أن العراق الذي «يعنبر الطرف العربي القوي الوحيد القادر على الدخول في حرب الند للند مع إسرائيل» ليس مستعداً لشن حرب ضد إسرائيل لأنه على رغم انتهاء حربه مع إيران لم يحل السلام بينهما بعد. كما أن العراق في حاجة ماسة إلى طاقاته الاقتصادية والبشرية لإعادة إعمار البلاد».
أما مورفي فقال: «إن شبح عام 1967 يطاردني» لأنه لم يكن هناك وقتها كثير من الخبراء توقع وقوع الحرب، واعتبر أن تراكم الأسلحة تحديداً هو الذي يجعل احتمال الحرب أكبر لأن الخطر ليس في الأسلحة في حد ذاتها «بل في الذين في أيديهم هذه الأسلحة…».
وقدم مورفي مجموعة من الطروحات عن السياسة الأميركية في منطقة الخليج الآخذة في الاعتبار التغييرات في العلاقات الدولية. وأكد أن من بين أهم المبادئ التي يجب أن تتبعها هذه السياسة التأكيد على الفهم المتزايد للعلاقة المتبادلة بين الولايات المتحدة ومنطقة الخليج، وإذا كان ممكناً إقامة علاقات جيدة مع العراق وإيران في آن».
كما نشرت مجلة الدستور مقالات مماثلة منها مقال بعنوان: «من الحرب الباردة إلى الحرب الدافئة» تعليقاً منها على اجتماع حلف الناتو الأخير في لندن، ونشر قبل الغزو بثلاثة أسابيع في 16/07/1990م وفي عدد سابق بتاريخ 19/03/1990 نشرت مقالاً عن الهجرة اليهودية وأهداف إسرائيل، لا يخرج عما نقلنا من قبل إلا أنه يتضمن كلاماً لمحمد حسنين هيكل جديراً بالتأمل وهو قوله:
«إن طرد العرب من المناطق المحتلة سيشكل أحد المطالب التي سيتقدم بها الكيان الصهيوني لقاء استعداد للتوصل إلى سلام مع الدول العربية، فضلاً عن المطالبة بثروات عربية مثل مياه النيل ونفط السعودية وغاز الجزائر وأن أقصى ما سيتنازل عنه مسؤولو هذا الكيان سيتمثل بموافقتهم على كفرة الحكم الذاتي عقب إجراء تعديلات هائلة على الحدود». وقبل 18 يوماً تقريباً من الغزو كان رئيس الأركان الأميركية في إسرائيل وبحث مع نظيره اليهودي تزويد إسرائيل بصواريخ متطورة جداً من طراز «حيتس» و«أرو» وهي التي يقال أن إسرائيل تشارك فيها تقنياً وأميركا مالياً، (أنظر السياسة الكويتية عدد 22/12/1410هـ).
وقد صحب هذه التصريحات بل سبقها تحركات عسكرية خطيرة من أبرزها الحشود العسكرية الأميركية الزاحفة نحو المنطقة في كثافة لا مثيل لها من قبل، ومنها على سبيل المثال إرسال أكبر قاعدة متحركة في العالم وهي حاملة الطائرات «ايزنهاور» التي تسير بالطاقة النووية إلى شرق البحر الأبيض ومعها سبع وعشرون سفينة، والغريب أن يصرح البنتاجون بأن إرسالها تبديل عادي «ولا تستنتجوا منه أي شيء» (أنظر الحياة 13/08/1410هـ).
ولكن ما أن اندلعت أزمة الخليج حتى عبرت قناة السويس (رغم أن ذلك مخالف لنظام القناة نظراً لخطورة الطاقة النووية) واستقرت على ساحل جدة!!
كما اشتكت العراق رسمياً من استمرار قيام طائرات الإنذار المبكر (أواكس) بطلعات استفزازية على حدودها الجنوبية والشمالية!!
والأمثلة لإرهاصات الأزمة كثيرة جداً غير أن السؤال هنا هو؟
ما موقف دول المنطقة وخاصة العراق والسعودية؟
إن السعودية والعراق هما أكثر البلدان اهتماماً بهذه التحركات وتخوفاً منها بعد الأردن الذي أصبح مصيره في كف عفريت ـ كما يقال ـ ذلك أن اجتياح الأردن يعني فتح جبهة مباشرة معهما، وقد نددت إسرائيل بالدولتين على حد سواء زاعمة أن الصواريخ الصينية لدى السعودية والصواريخ العراقية المطورة تشكل أكبر تهديد لها، وفي أواخر رجب 1410هـ ألقى صدام حسين خطاباً بالغ الخطورة أعلن فيه احتمال تفجير الوضع في المنطقة وقيام حروب بين الدول العربية ونزاعات إقليمية (لكنه لم يسمِّ الدول الأقاليم) وأكد على ضرورة تفاهم العرب واجتماعهم لدرء الخطر الإسرائيلي!!
وعقب ذلك وأثناء هيجان الصحافة العالمية والإعلام العالمي عن نشوب حرب قام الملك فهد بزيارة حفر الباطن وأقام فيها ثلاثة أسابيع وهناك التقى بكل من صدام حسين والملك حسين وغيرهما، وفي تلك الأيام أعلنت الوحدة بين اليمنين، وبدا وكأن الأمة العربية ـ كما تسمى ـ في حالة تفاؤل، ووصل عدد من المسؤولين العسكريين الغربيين إلى المنطقة منهم وزير دفاع بريطانية التي تنفذ مشروعاً ضخماً في المملكة، وقام الأمير خالد بن سلطان (الذي أصبح بعد الأزمة قائداً للقوات) بزيارة لباكستان استغرقت أسبوعاً.
وأنذر عدد آخر من زعماء العرب باحتمال قيام حرب جديدة منهم حافظ الأسد والقذافي وياسر عرفات وولي عهد الكويت ووزير الخارجية السعودي، بل أن الصحافة العربية والمحللين والمراقبين السياسيين كانوا على معرفة بخطر قادم. فقد نشرت جريدة القبس الكويتية في 03/05/1990 مقالاً بعنوان «كيسنجر يسأل بوش: ماذا إذا وقفت الصواريخ العربية كلها في خندق واحد؟» جاء فيه:
«إن التقارير التي ترد من واشنطن إلى وزارة الخارجية في إحدى الدول العربية تؤكد أن الخطة اليهودية تقضي بأن تكون إسرائيل وقبل عام 2010 أكبر دول المنطقة بعد مصر من حيث الإمكانات الديمغرافية (السكانية) فليس اليهود السوفيات وحدهم هم الذين يتدفقون على الدولة العربية بل أن الفائض الأميركي سيتجه نحوها أيضاً، والمهم هنا أن البنية الجغرافية والديمغرافية لأكثر من دولة عربية لن تظل على حالها. كيف؟».
«إن ما يحدث في لبنان هو النموذج، واليهود يعتقدون أنه كما تمت برمجة الانفجار في لبنان يمكن برمجته في بلدان عربية أخرى، فلا مشكلة هنا سوى رفع مستوى الفعالية اليهودية داخل الإدارة الأميركية..» الخ.
وأكدت الصحيفة أن ما تريده إسرائيل تفكيك الصواريخ العربية بل تفكيك البلاد العربية إلى دويلات.
ومن أغرب ما قرأته قبل نشوب الأزمة تصريح زعيم إيران «رافسنجاني» في خطبة الجمعة المنشور بجريدة الحياة 14/08/1410هـ الذي قال فيه:
«يجب أن يستخدم العراق أيضاً الخليج عندما يسود السلام» فقد تساءلت يؤمئذ كيف يجب وعلى من يقع هذا الوجوب؟
أما الولايات المتحدة الأميركية نفسها فقد كانت تصرفاتها العسكرية تنذر بأمر خطير لم يخفَ على الصحافة العربية فضلاً عن الزعماء ولنأت على ذلك بمثالين:
1- جلسة للكونغرس حصرها قادة فروع الجيش الأميركي نشرت جريدة الحياة الصادرة يوم 23 شعبان 1410هـ تقريراً عنها بعنوان: «القوات الأميركية تعيد تنظيم تشكيلاتها للتدخل الطارئ» جاء فيه:
«بدأت المؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة عملية إعادة تنظيم رئيسية لقواتها في أنحاء العالم لمواجهة تهديدات غير متوقعة وبخاصة الخطر المحتمل من قوى متوسطة المستوى في الشرق الأوسط والعالم النامي، وفي جلسة أمام الكونغرس أخيراً وصف الجنزال كولين باول رئيس الأركان المشتركة وكذلك جنرالات كبار خططاً لصياغة المزج المناسب لقوات ثقيلة وخفيفة تحمي مصالح الولايات المتحدة في أرجاء العالم في عصر يتسم بخفض موازنة الدفاع وعدد أفراد القوات المسلحة. [يعني عصر الوفاق الدولي حيث اتفقت الأطراف على ذلك، وهكذا يكون الوجود العسكري المباشر مساعداً على تخفيف الموازنة لأنه سيحول دون نمو قوي تحتاج مقاومتها إلى تسلح أكبر ونفقات أكثر وخاصة إذا تم إيداع الأسلحة بالمنطقة مع سحب قدر من الجنود يجري إعادتهم في حالات الطوارئ. ففي ذلك ثبات لمستوى الأسلحة وحذف لتكاليف النقل والإمداد.
وأبلغ الجنزال باول إلى لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي أن الولايات المتحدة يجب أن تكون مستعدة لمواجهة طائفة من التهديدات تتراوح بين عمل إرهابي فردي إلى حرب إقليمية، وأنها تحتفظ بقوات كبيرة في أراضيها وفي أوروبا وأنحاء مختلفة من العالم على مستويات عالية من الاستعداد لمواجهة مثل هذه الطوارئ.
وعرف رئيس اللجنة «لي اسبين» الطوارئ بأنها «تلك النزاعات التي لا تحركها تهديدات سوفياتية ومن حلف وارسو». وأضاف «باول» أن الولايات المتحدة لجأت في الغالب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى استخدام القوات العسكرية بأعداد صغيرة نسبياً وفي أوضاع واضحة المعالم وأساساً في حروب صغيرة مثل كوريا وحرب أكبر مثل فيتنام، أو تدخلات عسكرية سريعة مثل جرينادا وبنما، إلا أنه حذر من أن التهديدات العالمية التي تواجه أميركا اليوم تختلف تماماً وربما تطلبت منها أن تنتشر قوات ضخمة في الجو البر والبحر في مواجهة بلدان حسنة التسليح في العالم الثالث في ظروف غير مستقرة».
ووصف عمليات هذه القوات بأنها «عمليات متواصلة طويلة الأجل».
وقال أن «الكثير من هذه البلدان في الشرق الأوسط» وقال: «وبعض هذه الدول وإحداها على وجه التحديد تمتلك مخزوناً يضم أكثر من 5000 دبابة». وعرف التقرير هذه الدولة بأنها العراق.
وأوضح قائد البحرية البلدان المستهدفة بأنها «المناطق الأقل تطوراً في العالم فهنا تكمن المعادن والموارد النفيسة».
(لاحظوا كيف يظهرون طمعهم في ثروات العالم الفقير ومع ذلك يتذرعون بما يسمونه تهديدات تواجه أميركا!!).
على أن أهم ما في الجلسة هو وصف سيناريو التدخل الذي جاء على لسان أحد القادة حيث ذكر «أنه سيتضمن القدرة على الدخول القسري باستخدام القوات المحمولة جواً وقوات خاصة وجوالة ويمكن أن يستخدم أيضاً الإنزال البرمائي للمارينز التي تضم نحو 197 ألفاً من الرجال والنساء وتجهيزات نقل واسناد من البحرية الأميركية..» الخ مضيفاً ما قيل عن الفرقة 82 المحمولة جواً!!
(يلاحظ قوله الدخول القسري الذي يعني أن أية دول ترفض هذا الدخول ستجده أمراً واقعاً، لعلم الأميركان أن دول الخليج لا تريد هذا الوجود، وقد حرصت أميركا على أن تطلب الكويت منها التدخل وأبلغتها عن الحشود العراقية على الحدود ولكنها لم تفعل فكان ما كان!!، والمهم أن الأميركيين قادمون وعازمون على الدخول لهذا السبب أو ذاك).
2- التقرير الأمني السنوي لمجلس الأمن القومي الأميركي:
وهو مكون من 32 صفحة وقد نشرت عنه جريدة الحياة بتاريخ 26 شعبان 1410هـ: «أفاد تقرير أمني سنوي أصدره مجلس الأمن القومي الأميركي أن المصالح الحيوية الأميركية في الشرق الأوسط المتمثلة أساساً في مصادر الطاقة والعلاقات الأميركية القوية مع بعض دول المنطقة تستحق وجوداً أميركياً مستمراً وربما معززاً في المنطقة، وأضاف أن التهديدات التي تواجه هذه المصالح ازدادت على أثر التبدد السريع للتوتر بي الشرق والغرب».
(لاحظوا وصف بالاستمرار، والمعالطة في دعوى أن التهديدات زادت بعد الوفاق!!) وأضاف «أن منطقة الشرق الأوسط «فيها صراعات ذات دوافع محلية مستقلة عن أعمال أو سياسات الاتحاد السوفياتي «وزاد» أن التهديدات لمصالحنا بما في ذلك أمن إسرائيل والدول العربية المعتدلة وكذلك تدفق النفط بحرية تنبع من مصادر متنوعة». وبعد أن ضخم كالعادة القوى الإقليمية وأسلحتها الكيماوية والبيولوجية والنووية «أكد التقرير أن الولايات المتحدة ستحافظ على وجود بحري لها في شرق البحر المتوسط وفي منطقة الخليج والمحيط الهندي وأنها ستنظم مناورات بحرية مشتركة بين فترة وأخرى وستسعى إلى دعم أفضل من الدول المحيطة للأسطول. وإلى خزن معدات سلفاً في مختلف أنحاء المنطقة».
ويقول المعلق بالجريدة:
«وقد أكدت الولايات المتحدة خلال العام الماضي أنها مضت قدماً في تطبيق خطط لخزن معدات عسكرية قيمتها ملايين الدولارات في إسرائيل من أجل أن تستخدمها القوات الأميركية في حال نشوب أزمة فضلاً عن منح إسرائيل حرية استخدام تلك المعدات في حال طوارئ».
(وهذا ما تريد أميركا فعله أيضاً في الدول الخليجية إذا رأت تخفيف وجودها البشري في المنطقة).
هذا وقد «توقف (التقرير) أمام العنف الناتج من صراعات دينية في الشرق الأوسط والذي يحظى باهتمام مسؤولي السياسة الأميركية الذين يعتقدون بأن التطرف الديني سيستمر في تهديد حياة السكان الأميركيين والدول الصديقة من الشرق الأوسط والتي يعتمد العالم على مصادر الطاقة فيها» أ هـ.
والحاصل أن كل وسائل الإعلام العالمية خلال الشهور السابقة لإنفجار الأزمة قد نشرت أنباء نذر حرب جديدة وعن كون العراق هدفاً لها وعن تصريحات عراقية بالإستعداد لرد العدوان الأميركي البريطاني الإسرائيلي كما تسميه!!
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا فعل العراق ما فعل؟ وهل كانت أميركا على علم سابق بالغزو؟
والذي أصبح اليوم في حكم المقطوع به أن صداماً قد تلقى من أميركا إشارة خضراء للزحف على الكويت (كما سنوضح) وأن غروره وحماقته قد أوقعته في شراك يصعب الخلاص منه، وأن مخططه هذا قد ارتبك جداً.
فآل الصباح هربوا قبيل وصول دباباته قصورهم بقليل، والفراغ الدستوري لم يحدث، والمعارضة رفضت التعاون معه، وضباطه لم يجيدوا التمثيل فيما ولكل إليهم من أدوار للحكومة الحرة، ومن هنا تناقض وارتبك وأعلن آخر ما كان يمكن أن يفعله وهو ضم الكويت نهائياً عقب إعلان انسحابه منها وتشكيل الحكومة الحرة!!
وكل من يستذكر وقائع الحدث أو يعيد الاطلاع على الصحف سيجد هذا واضحاً. وهنا نعرض لدور أميركا في الإخراج مذكرين بما سمعه المتتبعون لوسائل الإعلام قبل الحادث:
فأميركا هي التي طلبت من دول الخليج رفع انتاجها ليرخص السعر وتنهار العراق اقتصادياً، وهي التي أبلغت العراق عن سرقة الكويت لحقل الرميلة، وهي التي تحدثت وأنذرت من حشود عراقية باتجاه الكويت، وهي التي أشاعت في بعض مصادرها الإعلامية أن الكويت مولت مؤامرة عسكرية للإطاحة بصدام، وأخيراً أعطت صدام الضوء الأخضر لاقتحام الكويت كما جاء في محضر لقاء السفيرة الذي سنعرضه ضمن الشواهد!!
وعشية الغزو ـ ليلة الخميس ـ أعلن بوش بالحرف «أن تجاوز العراق للكويت إلى غيرها هو أمر غير مقبول» هذا نص ما أعلنته الإذاعات ونشرته الصحف ومفهومه الفاضح ـ وعاه صدام وحزبه فتوهموا إمكانية الاعتراف له بالكويت.
ولما أعلن صدام الحكومة الحرة رد بوش بإعلان أن أميركا ترفض الاعتراف بحكومة دمية ومفهومه كان الايغال في الشراك بإعلان الدمج وتقويض الدمية!! [من أغرب ما سمعته في هذه الأزمة على كثرة غرايبها تصريح طارق عزيز في مؤتمره الصحفي بعمان بعد الغزو عندما ألح عليه الصحفيون عن احتمالات ضربة من أميركا عاجلة، قال: «إننا في الحكم منذ عشرين سنة ونحن نتعامل مع الغرب ويفهمنا ونفهمه وبيننا وبينه مصالح ممشتركة أو مترابطة»!! ويذكر حسن العلوي مستشار الإعلام البعثي سابقاً أن أحمد حسن البكر كان يتهم طارق عزيز بالجاسوسية!!].
فلما استحكمت الأنشوطة وأصبح التراجع مستحيلاً تماماً أعلن بوش حملته التي لم تهدأ لإعادة أسرة آل الصباح وفرض القانون الدولي ومعاقبة من خرقه.. الخ. وهرت أميركا تساوم دول الخليج للتدخل العسكري، وترددت الدول وحاولت الامتناع وأخيراً جرى الإعلان هنا عن «طلب المساعدة» من أميركا في حين أعلنتها أميركا «موافقة» على التدخل أي أنها هي الطالبة وهذه هي الحقيقة في نظري!!
ومنذ ذلك اليوم حتى اليوم والذي يتردد في وسائل الإعلام الأميركية كافة هو أن أميركا تدخلت لأنها أعانت!!
تدخلت لتحقيق استرتيجيتها وحماية مصالحها والقضاء على عدو يهدد هذه المصالح، لأنها أعانت صديقاً لها يخشى أن يهاجمه جاره!!
ومن ذلك جواب بوش الشهير لما سئل في مجلس الشيوخ الأميركي «كيف ترسل أميركا أبناءها من أجل شيوخ النفط المستبدين؟ فأجاب: نحن ذهبنا من أجل شيوخ أميركا ومصالحها وليس من أجل شيوخ النفط!!
وبعد نزول الأميركان أعلن طاغوت البعث «الجهاد المقدس» ورد بوش بالإعلان عن كفر صدام وإلحاده وأنه لا يمثل الاسلام، كما أعلنت تاتشر أنه لا وجه لمقارنته بصلاح الدين الأيوبي (رحمه الله وطيب ثراه) وتحول هياج الرأي العام في العالم الإسلامي نتيجة الإعلام البعثي المركز من استنكار احتلال الكويت إلى استنكار دخول القوات الأجنبية ونتيجة هذا الغليان الذي لم يهدأ احتاجت الحكومة لصوت إسلامي مضاد فكان إعلان التأييد من مجلس القضاء الأعلى ثم من هيئتكم الموقرة، وتم طلب ذلك أيضاً من المحاكم الشرعية في المناطق كما تعلمون!!
ومع تحفظي على صيغة التأييد من جهة أنه لم يشر إلى اسباب البلاء ووسائل دفعها ولو بإيجاز ومن جهة أنه لم يقيد الضرورة.. وغير ذلك فقد ارتحت من جهة أنه لم يذكر أدلة تفصيلية.
ثم ظهر بعض الخطباء بهيئة المستدرك عليكم فذكروا أحاديث لا تدل على المقصود لأن مناط الحكم مختلف تماماً، إما لأنها ليست في باب الجهاد أصلاً وإما لاختلاف الواقع اختلافاً كلياً. فلم يسعني إلا إعلان رأيي كما سمعتموه، وكانت القضية الأساسية عندي وما تزال هي ـ تصور الواقع على حقيقته وتحذير الأمة من مخاطره في المستقبل، لا سيما بيان أن ما أصابنا هو من عند أنفسنا وأن الرجوع إلى الله والضراعة له والاستكانة أساس الحل، وضرورة التوكل على الله وحده واعداد العدة للاستغناء عن كل ما سواه، وإحياء فريضة الجهاد، وتدارك مفاسد وجود القوات، وبيان تقصيرنا وتفريطنا في الإعداد وفي معاملتنا لصدام وغيره، وفتح المجال للدعوة وإنكار المنكر.. وما أشبه ذلك هذا هو خلاصة ما كنت أردده ولا أزال وأكرر معه في كل مناسبة التحذير من التهور والاندفاع العاطفي وترك الحكمة في معالجة الأمور!!.
لقد قضى الأمر وحلت الكارثة فلم يعد مجدياً الخلاف في المسألة فقهياً بل الواجب تدارك أثار هذا الوجود المدمر وإعداد الأمة للخلاص من أسبابه ونتائجه بأفضل الأساليب وأحكمها ومنها ما أشرت إليه آنفاً□
(يتبع)…
1991-10-06