تثبيت الليرة: حقيقة أم مجاز
1988/09/05م
المقالات
2,337 زيارة
بقلم: د.طلال البساط
عن جريدة «السفير البيروتية
من الصعب أن تواجه المتفائل بأمور تعيده إلى الجد والتحسس بواقعه بدلاً من أن تتركه يعيش على الأمل بفرج قريب، ولكنه من المؤلم أيضاً أن تتركه في تفاؤله وعيشه على الأمل وأنت تعلم أن الدواء هو غير الأمل المطلق وأن مواجهة الواقع أنجع له من العيش على الأمل ومن التصرف على أساسه.
في مقابلة صحفية حديثه، يقول العميد ريمون اده: «وكل مرة يعدون الناس بالأمل وبأن الحل آت وتأتي الخيبة، وهذا ذروة العذاب، لا أريد أن أساهم في هذه اللعبة لا أريد أن أخرب بيوت الناس، لا أريد أن أزيد عذاب الناس».
وقد عم التفاؤل في الأمور النقدية في الأشهر الأخيرة حتى أصبح متفشياً بين الناس وفي تعليقات المحلين دونما تحسب أو تحفظ يذكر، كما أصبح كافياً أن يقال أن سعر الدولار قد انخفض وأن مصرف لبنان يعيد تكوين احتياطه من العملات الأجنبية حتى يسود جو التفاؤل أما كيف حصل هذا ولماذا فالحديث فيه يبدد التفاؤل، وهذا أمر غير مسر للمتفائل.
كما طغى التفاؤل حتى على الحساب! خذ مثلاً ما ظهر في عنوان بارز في إحدى الصحف اليومية في الأول من تموز الحالي: «الليرة استعادت 40,93 بالمئة من قيمتها في النصف الأول من السنة».
واحتسب كاتب المقال هذه النسبة بمقارنة سعر صرف الليرة في آخر حزيران مع سعر 497,5 ورد فيها أنه لأول يوم من السنة، والواقع أن المقارنة الصحيحة كان يجب أن تكون مع آخر يوم عمل من كانون الأول وهو 455، واعتماد هذا الرقم يعني أن سعر الصرف ارتفع في الستة الأشهر الأولى بنسبة 9،28 بالمئة وليس 93،40 بالمئة.
لكن الأهم والأصح أن تكون المقارنة، خاصة عندما تكثر التقلبات، بين متوسطات الأسعار، أي بين متوسط حزيران ومتوسط كانون الأول السابق، وأن تكون الفترة المختارة هي المناسبة للمقارنة، فمثلاً ليس واضحاً فيما عدا العيش في أجواء التفاؤل، لماذا لم تكن المقارنة لربع السنة أو الثلاثة أشهر المنتهية في حزيران ومنها يتبين أن سعر الصرف تحسن بنسبة أقل من ثلاثة بالمئة فقط، أو لماذا لم تكن المقارنة للسنة الكاملة أو الاثني عشر شهراً المنتهية في حزيران ومنها يتبين أن سعر صرف الليرة خسر 4،62 بالمئة وأن قيمة الليرة الواحدة هي ثلث ما كانت عليه قبل عام واحد، إذن فالتحسن الذي يتحدث عنه مصرف لبنان هو فقط ذلك الذي حصل في شباط وآذار ولأسباب معينة سنعرض لها، ثم حصل تراجع في نيسان وأيار ثم تحسن طفيف في حزيران.
وخذ مثالاً آخر على التفاؤل الذي أصاب الحساب، ففي تقرير نشر في أوائل تموز ويبدو أن مصدره هو مصرف لبنان ورد في عنوانه أن الدين الداخلي «الفعلي» أصبح 293 ملياراً حتى آخر حزيران، ولكن جدولاً مرفقاً بالتقرير يبين أن الرقم الصحيح هو 394 ملياراً أي بزيادة 101 مليار ليرة. وسبب الفرق هو طرح ما قيل أنه قيمة ودائع الدولة لدى مصرف لبنان وهي بحسب جدول آخر مرفق بقيمة الـ 101 مليار ليرة، وهذه بدعة لم يسبق أن جرى عليها مصرف لبنان، وذلك أن الدين غير الوديعة بل أن وجود الدين الضخم يطرح السؤال مجدداً: لماذا تراكم هذه الودائع؟ وطرحها حسابياً لا يخفف من آثار هذه الدين الداخلي الذي سيصبح إذا استمر نموه في النصف الثاني من 1988 كما في النصف الأول منه، سيصبح أكثر من 800 مليار ليرة أو أربعة أضعاف ما كان عليه في بدء هذا العام.
على أن أرقام الودائع هذه هي نفسها غير تلك التي في ميزانية مصرف لبنان لنهاية حزيران، فالميزانية تظهر أن تلك الودائع التي للقطاع العام قد بلغت 150 ملياراً وليس 101 مليار، والودائع هذه، «المجمدة»، منها والذي تحت الطلب، معظمها بالعملات الأجنبية فيما القروض وسندات الخزينة هي بالليرة وهو سبب إضافي لعدم جواز المقاصة الحسابية بينهما.
ورقم الودائع التي للدولة لدى مصرف لبنان في نهاية حزيران أصبح أربعة أضعاف ما كان عليه في نهاية حزيران من العام السابق، وهو الرقم الذي أشير إلى ضخامته دون ذكر مبلغه في كتاب وزير المال بالوكالة إلى مصرف لبنان، وفيه:
«… ولما كانت حصيلة الاكتتابات في سندات الخزينة التي تتولونها قد أصبحت من جهة ثانية تتجاوز بكثير متطلبات الخزينة من السيولة…» (نشر في 21/06/88).
على أن طرح الودائع من أرقام الدين الداخلي لا يستقيم أيضاً لأن الودائع هي بقيمة حالية أي نقدية أما الدين فمعظمه من سندات الخزينة وهي أدرجت بقيمتها المستقبلية أو الاسمية فقيمة السندات المدرجة ليست هي المبلغ الذي قبضته الخزينة عند بيعها لتلك السندات بل بذلك المبلغ مضافاً إليه الحسم الذي يؤخذ من القيمة الاسمية وهي التي تدفع عند الاستحقاق مستقبلاً.
ويمكن تقدير القيمة النقدية للدين الداخلي بحوالي 363 ملياراً (من أصل قيمة اسمية 394 ملياراً) بعد أخذ معدلات الحسم وآجال السندات في الاعتبار، وإذا ما قورن هذا الرقم للقيمة النقدية مع الودائع لتبين أنه قد أصبح للدولة في نهاية حزيران 1988 ودائع لدى مصرف لبنان توازن 41 بالمئة من مجموع دينها الداخلي بالليرة والخطر في هذا هو أن معظم الودائع هي بالعملات الأجنبية وجميع الدين الداخلي هو بالليرة، وبالتالي الإغراء المهدد لقيمة الليرة، إن انخفض قيمة الليرة يرفع نسبة الموجودات للمطلوبات أو يخفض نسبة المطلوبات التي هي بالليرة إلى الموجودات التي معظمها بالعملات الأجنبية.
منذ عام تقريباً لم تكن أجواء التفاؤل هذه بل هي لم تطغى إلا بدءاً من أواخر كانون الثاني من مطلع هذا العام وكان الدولار يتصاعد قفزاً والناس تخشى على ما تبقى من أموالها فما الذي جرى؟ بيروت لا تزال شرقية وغربية، والمرافئ والمرافق وسائر البنود في هذه اللائحة لا تزال عليها وحاكم المصرف المركزي ونوابه لا يزالون هم أنفسهم في مناصبهم، إذن فما الذي جرى وكيف تمكن مصرف لبنان من تهدئة سعر صرف الليرة وتكوين احتياطه من جديد من العملات الأجنبية؟ نعم، كيف وبماذا؟ للإجابة على هذه الأسئلة، من المفيد حصر البحث في الذي جرى في الاثني عشر شهراً المنتهية في 30 حزيران 1988.
تغييران في سياسة مصرف لبنان
حتى حزيران 1987 كان مصرف لبنان وكيلاً نشطاً لوزارة المال في بيع سندات الخزينة مباشرة للمصارف والجمهور، ثم بدأ في ذلك الشهر يبتاع هذه السندات لحسابه وبمبالغ كبيرة، وتراكمت هذه المشتريات في محفظة السندات لدى المصرف حتى أصبح حجمها خمسة أضعاف في نهاية النصف الثاني من 1987 عما كانت عليه في أول تموز من العام نفسه، وكانت مشتريات المصرف لحسابه الخاص السبب الرئيسي في ازدياد حجم السندات المتداولة في ذات الفترة بنسبة 63 بالمئة بعدما كان ارتفاعها في النصف الأول من 1987 بنسبة 39 بالمئة، وكانت مشتريات المصرف المركزي هي أيضاً سبباً رئيسياً في تراكم ودائع الخزينة لدى مصرف لبنان الذي كان وسيطاً أيضاً في شراء عملات أجنبية بها، وأدت هذه السياسة فيما أدت إليه إلى أن خسرت الليرة من قيمتها 72 بالمئة في تلك الفترة ـ أي في النصف الثاني من 1987 ـ بعد أن خسرت 48 بالمئة في النصف الأول منه.
وفي مطلع العام 1988 بدا مصرف لبنان يبحث عن سياسة بديلة ويجري مداولات مع المجلس الجديد لجمعية المصارف، وكانت المسألة تتلخص عند المصرف بأنه يريد الاستمرار في ترويج مبيعات السندات وشراء عملات أجنبية للدولة وللمصرف من حصيلة هذه المبيعات ولكنه لا يريد أن تتراكم السندات في محفظته، وإذا ما حددت المسألة على هذا الشكل أصبح البحث هو عن مقدار العائد الكافي لحمل الجمهور والمصارف على شراء تلك السندات بالليرة اللبنانية، وكانت المداولات مع جمعية المصارف تدور حول تضييق الفارق بين العائد على السندات المكتتب بها مباشرة من الدولة وبين العائد على السندات التي يشتريها المصرف أولاً ثم يبيعها فيا سمي «السوق الثانوية» وهي التي لم يكن آنذاك ممكناً للمصارف أن تشتري منها.
وانتهى التداول ليس إلى تضييق الفارق بل إلى الترخيص للمصارف أن تشارك هي في السوق الثانوية وبالتالي تحصل على العائد المرتفع منها وأيضاً إلى قرار مصرف لبنان بقبول ودائع لأجل من المصارف وسواها بفوائد مرتفعة لآجال قصيرة جداً يصل قصرها إلى ثلاثة أيام، وكان هذا هو التغيير الثاني في سياسة مصرف لبنان، فانتعشت مبيعات السندات بشكل درامي وكذلك السوق الثانوية وأيضاً مبالغ الودائع لأجل لدى المصرف المركزي، وأصبح شراء سندات الخزينة في «السوق الثانوية» شاغل الناس واكسير الأزمة.
السوق الثانية لسندات الخزينة
يستعمل تعبير «السوق الثانوية» للدلالة على المتعاملين في بيع وشراء الأوراق المالية بعد أن تكون هذه الأوراق قد وصلت إلى السوق عن طريق اكتتابها عند إصدارها والبيع والشراء في الاكتتاب، عند الإصدار الدوري، هو السوق الأولية، ويكون الفرق بين السوقين هو في أسعار الأوراق، ولكنه فارق ضئيل عموماً لما قد يستحق بسبب أمور تطرأ بين الإصدار والإصدار الذي يليه أو إلى حين الاستحقاق.
ولكن هذا التعبير لا ينطبق على واقع الأمر بالنسبة لسندات الخزينة اللبنانية، فالبائع الرئيسي والرصيد في السوق الثانوية بها هو صرف لبنان، وهو يعد بيع ما يشتريه بفارق كبير جداً، لما يراه هو من مصلحة نقدية، والمصرف ليس مصرفاً تجارياً وهو يتحمل خسارة كبيرة لترويج السندات وليس للربح من متغيرات وأنه من المفيد والضروري فهم هذا الواقع والانتفاع بالمثال الآتي:
لنأخذ سند خزينة بقيمة اسمية هي مليون ليرة ويستحق بعد سنة من إصداره، عندما يبيع مصرف لبنان هذا السند كوكيل عن الخزينة ولأحد المصارف فإنه يقبض من المشتري 800,000 ليرة ويحوله لحساب الخزينة، والمشتري بدوره ينتظر استحقاق السند ليقبض كامل القيمة الاسمية وهو مليون ليرة ويكون عائدة 200,000 على مبلغ الـ 000،800 ليرة الذي دفعه ابتداء أي بعائد 25 بالمئة، لكن لنفترض الآن أن مصرف لبنان اشترى السند لحسابه هو، أي بمبلغ 000،800 وبموجب سياسته الحالية المتبناة، لا يريد الاحتفاظ بالسند بل يريد بيعه حتى لو بخسارة، فيبيعه يوم شرائه أو فيما بعد في السوق الثانوية بسعر أدنى مما دفعه هو، ويعبر عن هذا السعر بمعدلات حسم لهذه السوق.
وقد حدد مصرف لبنان حسم هذه السندات بسعر 31 بالمئة من القيمة الاسمية (هذا قبل التخفيض الأخير الضئيل). أي أن المصرف المركزي أصبح مستعداً لبيع السند الذي اشتراه بـ 000،800 ليرة بسعر 000،690 ليرة والمشتري في السوق الثانوية أي من المصرف، سيقبض قيمته الاسمية عند استحقاقه وهي مليون ليرة فيكون عائده 000،310 ليرة على مبلغ 000، 690 ليرة التي دفعها، أي بعائد 45 بالمئة، أما مصرف لبنان فيكون قد تكبد خسارة هي الفرق بين ما دفعه للخزينة (000،800 ليرة) وما قبضه في السوق الثانوية (000،690 ليرة) أي 000،110 ليرة خسارة عن كل مليون ليرة من سندات السنة، وبعد الخفض الكبير على أسعار الحسم، أصبح حسم السوق الثانوية إلى مثل هذه السند 000،270 بدلاً من 000،310 ليرة، وأصبحت خسارة مصرف لبنان الفورية (من البيع للمصرف ثم للسوق الثانوية ) 000،70 ليرة بدلاً من 000،100 ليرة.
لماذا يتكبد مصرف لبنان طوعاً هذه الخسارة؟ إن هذا العرض المغري من مصرف لبنان لمن يريد قبول هذا التوزيع المجاني له شرط واحد وهو أن المعاملة لا تتم إلا بالليرة فيبيع من يريد شراء السندات وكسب العائد المرتفع الذي يصل الآن، حتى بعد تخفيض الحسم إلى 37 بالمئة، يبيع ما عنده من مبالغ بالدولار ويدفع ثمن السندات بالليرة، وبالمقابل فإن المصرف راغب وجاهز ليقوم بعكس ذلك فيبيع السندات ويتكبد الخسارة ليشتري بحصيلة البيع الدولارات المعروضة، وتكون النتيجة، وإن بخسارة لمصرف لبنان، أن يصبح الدولار معروضاً واحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية متزايداً.
وتوافر الأرقام دلالة قوية على هذه النتيجة بغض النظر عن جدواها في المدى غير القصير: فقد ازداد احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية في الستة أشهر الأولى من 1988 بمبلغ 558 مليون دولار، وإذا ما قورنت هذه الزيادة بالحصيلة النقدية الصافية لمبيعات واستحقاقات سندات الخزينة في الفترة الصافية لمبيعات واستحقاقات سندات الخزينة في الفترة ذاتها بما في ذلك ما كان قد تراكم في محفظة المصرف المركزي في بدء السنة (والتي هي شبه خاوية الآن) مقومة بمتوسطات أسعار الدولار أثناء الفترة، لوجدنا أن هذه تمثل حوالي 85 بالمئة من الزيادة في احتياط مصرف لبنان وعليه فإن خسارة المصرف من «السوق الثانوية» يعادلها في نظر المصرف جعل الدولار معروضاً وشراؤه لاحتياط مصرف لبنان.
أما ما تبقى من الزيادة في احتياط المصرف فيبدوا أنها كانت نتيجة تصفية، ما كان الناس قد حملوه في جيوبهم من البنكنوت الأميركي بديلاً عن اللبناني (النقود غير المودعة في المصارف) عندما كان هبوط الليرة في أوجه في تشرين الأول والثاني 1987، و«النقد المتداول خارج مصرف لبنان» كما يظهر في ميزانية المصرف كان قد وصل لأدنى مستوى ـ قيمة بالدولار ـ في تشرين الثاني الماضي ثم عاد للازدياد بمعدلات غير عادية بعد ذلك وإلى حزيران بالرغم من الانخفاض في أسعار السلع بالليرة وهذا ما يدل على استبدال البنكنوت الأميركي باللبناني ويمكن تقدير المبلغ المستبدل بحوالي مئة مليون دولار في النصف الأول من هذا العام، وهذا ما يفسر، بالمناسبة بعض الفائض في ميزان المدفوعات لان احتسابه يشمل فقط الموجودات والمطلوبات الخارجية التي هي مدونة في البنوك وليس المبالغ التي هي قيد التداول في الجيوب.
استحداث مصرف لبنان
«أداة نقدية جديدة»
مع فتح أبواب «السوق الثانوية» للمصارف وبعوائد تضاهي ما تحصل عليها من عملائها كان التهافت على شراء السندات عظيماً بالفعل ويكفي للدلالة على هذا التهافت عنوان ظهر في إحدى الصحف في 16 آذار 1988 أي بعد أقل من شهر على تبني السياسة الجديدة وفيه: «نفذت سندات الخزينة الخاصة وسياسة جديدة لامتصاص السيولة». هذا مع العلم أن محفظة مصرف لبنان كانت تحتوي على 66 ملياراً من السندات في بدء العام 1988. إضافة إلى صافي الاكتتاب الجديدة في الربع الأول من هذا العام يساوي 70 ملياراً أخرى. وبعد أن هم المصرف المركزي الضغط على المصارف لشراء السندات والطرفان يتبادلان التصريحات ويتحاكمان إلى السياسيين، إذا بسندات الخزينة تنفذ تماماً في منتصف آذار.
واصبح لهذا الوضع المستجد أثر فاعل في الإقبال فيما بعد على ما أسماه مصرف لبنان «أداة نقدية جديدة» وهي الودائع لأجل بالليرة ولآجال أقصر من ثلاثة أشهر (وهي أقصر مدة في السندات) وبمعدلات فوائد تضاهي تلك التي للسندات. فالمصارف التي لم تكن قد أقدمت بكليتها على شراء السندات أقدمت على الودائع لأجل لأنها تمتاز بقصر مدتها فتأخذ منها الفوائد المرتفعة دون الارتباط بالليرة إلى أجل طويل.
وأدى إقبال المصارف على السندات وعلى الودائع لأجل والربح الذي فيهما إلى أن عمدت المصارف إلى الضغط على عملائها لتسديد قروضهم بالليرة، تلك القروض التي استعمل الكثير منها لشراء العملات الأجنبية. فقد أصبح إقراض الخزينة ومصرف لبنان أوفر ربحاً وأقل خطراً من قروض العملات للعملاء. كما عمد بعض العملاء، من غير حاجة لضغط من مصارفهم، إلى تسديد قروضهم بالليرة لظنهم أن استقرار سعر الليرة سيجعل تلك القروض بفوائدها المرتفعة غير مجدية في شراء الدولار بها. والتسديد يكون ببيع الدولار مقابل الليرة التي تؤدي للمصارف لسداد الديون، والمصارف بدورها تتوجه بذلك الفائض من السيولة إلى «السوق الثانوية وإلى الودائع لأجل لدى المركزي».
وقد كان خطوة مصرف لبنان في استحداث الودائع لأجل خطوة درامية كما تدل الأرقام على ذلك. إلا أن أول انتباه لها من الصحافة المالية كان بعد البدء بتنفيذها بحوالي شهرين، في 19 أيار من هذا العام. وورد ذلك في أحد التقارير التي نشرت على الشكل التالي: «في الفصل الأول من السنة استحدث مصرف لبنان أداة نقدية جديدة لسحب السيولة. إذ لا يمكنه الاستمرار في بيع السندات في السوق الثانوية من محفظته مع الطلب الكبير على هذه السندات. ففتح حسابات دائنة لأجل: وقد أقبلت المصارف على هذه الحسابات مما يوحي برغبة في التوظيف بالليرة. والودائع المشار إليها لا تتجاوز آجالها الشهر».
وهذا وصف صحيح ودقيق فيما عدا أنه كان من الأولى القول «لاستدرار السيولة» عرضاً عن القول «لسحب السيولة»، ذلك لأن السوق الثانوية للسندات وهذه «الأداة» الجديدة هدف كليهما هو دفع حامل الدولار لبيعه وحصوله على سيولة بالليرة ليوظفها بالليرة لدى مصرف لبنان. فهما حافر مادي للحصول على سيولة بالليرة وليس لأن الليرة كثرت في السوق ووجدت معها حاجة لامتصاصها. والدليل على ذلك أنه حتى بعد شراء السندات والتوظيف في الأداة ـ والوديعة الجديدة فإن هذا السيولة التي تتدفق إلى المصرف المركزي يعيدها هذا الأخير إلى السوق بشرائه الدولارات له وللخزينة لإضافته لاحتياط العملات الأجنبية.
وللدلالة على أهمية هذه «الأداة» التي ظلت غير معلنة لمدة شهرين أنه بالإضافة للإقبال المتهافت على السوق الثانوية بأسعار دون الكلفة، فإن حساب ودائع البنوك لدى المصرف المركزي وحساب التعهدات تجاه القطاع الخاص، وكلاهما موضع للودائع لأجل ارتفعا بمبلغ 46 مليار ليرة في شهر آذار وحده، وأصبحا في آخره أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانا عليه في أوله، ثم ارتفعا في الربع الثاني إلى حزيران 1988 بمبلغ 32 مليار ليرة أخرى. ولهذا لم يعد مستغرباً أن معظم التحسن في سعر صرف الليرة كان بالفعل في شباط وآذار عندما فتحت السوق الثانية بفوائدها المرتفعة للمصارف وجعلت لهم خصيصاً تلك الودائع لأجل لمن لم تجذبه السوق الثانوية جذباً مؤثراً.
تغطية خسائر مصرف لبنان
عندما يعمد مصرف لبنان طوعاً إلى تكبد الخسائر في بيعه سندات الخزينة في السوق الثانوية بأقل مما يشتريها به من الخزينة فإن هذه الخسائر تكون فورية ولا يكون بعدها إمكانية تعويض. فالعلاقة بعد البيع في السوق الثانوية تصبح بين حامل السند وبين الخزينة. وفي الودائع لأجل، فإن الفوائد المرتفعة التي دفعها مصرف لبنان يمكن التعويض على جزء بسيط منها إذا ما هو أودع ما يشتريه بها من عملات أجنبية بفوائد تلك العملات وتبقى خسائر جمة فيها أيضاً. وإذن فالخسائر تتراكم من هذه العمليات، وقد ظهرت بوادرها في الرقم المعلن عن أرباح مصرف لبنان للعام 1987، والتي كانت تلت ما كانت عليه في العام الذي قبله (للمقارنة، قررت الأرباح هذه بالدولار). على أن الخسائر الكبرى بدأت في العام الحالي وقد بادر مصرف لبنان إلى استخدام حساب فروقات العملة لتغطيتها.
وفي أيلول 1985 وجه حاكم مصرف لبنان كتابين إلى رئيس الوزراء الراحل رشيد كرامي في موضوع «فروقات العملات الأجنبية» وقال في أحدهما: «إن الفروقات المذكورة هي كتابية محضة ولم تدخل في شكل التقويم أرباحاً إلى مصرف لبنان». وكانت الخزينة آنذاك تطلب بحصتها 80 بالمئة، من تلك الفروقات بالرغم من أنها كتابية محضة، كما قال الحاكم. وتنشأ هذه الفروقات من تدني قيمة الليرة عما يكون في المصرف من موجودات أجنبية، فيؤدي تدني الليرة إلى رفع قيمة العملات الأجنبية محتسبة بالليرة، والفرق هو ما يتراكم في حساب «فروقات العملات».
هذا في أيلول 1985. أما في حزيران 1988 فقد حول مصرف لبنان بضعة مليارات من حساب الفروقات إلى الأرباح المحققة ومنها لحساب الخزينة. فقد ورد مع شروحات ميزانية مصرف لبنان الأخيرة الموقوفة بتاريخ 30 حزيران أن مصرف لبنان حول أربعة مليارات ليرة إلى الخزينة من حساب الفروقات. على أن أرقام الميزانية نفسها تدل على المبلغ المحول إلى أرباح محققة من فروقات العملات هو أقرب إلى عشرة مليارات منه إلى أربعة. فقد انخفض حساب «فروقات العملات» في النصف الثاني من حزيران بمبلغ عشرة مليارات مع أن تغير سعر الدولار لم يكن إلا طفيفاً ـ من 355 إلى 353 ليرة مما لا يبرر إلا جزءاً من مليار واحد في تغير الفروقات. ولهذا فما حول من الفروقات هو أقرب إلى المتبقي أو إلى العشرة مليارات منه إلى الأربعة مليارات المعلنة.
وليس المهم ههنا أن يتحمل المصرف المركزي أو الخزينة الخسارة، ولكن المهم هو وجود الكلفة المرتفعة جداً لكليهما. ذلك أن الخسارة الكبرى الحقيقية هي هذه التي تتوزع أعباؤها على الناس كافة وهي الأثر الأهم والمباشر لسياسة المصرف على أسعار السلع والخدمات. فعندما يدفع للناس 37 بالمئة عائداً جزءاً لحملهم عملة البلد التي يصدرها، يصبح ذلك العائد حداً أدنى لكلفة المال كما هو بين من «الفائدة الفضلى» لأفضل عملاء المصارف هي 40 بالمئة من قروضهم المالية، ورجل الأعمال يحتسب كلفة ماله، سواء أكان مالكاً أم مقترضاً عند تسعير سلعه وخدماته.
وليس هذا من الغرابة أن تظل أسعار السلع والخدمات مرتفعة بالرغم من استقرار سعر الدولار لأن هذا الاستقرار هو نفسه بثمن وهو الانخفاض في القوة الشرائية الفعلية، ولهذا أيضاً ليس غريباً أن يردد الناس، ما نفع استقرار الدولار أو استقرار سعر صرف الليرة إذا كانت قوة الليرة الشرائية الفعلية تتدنى؟
الأخطار المحدقة بالسياسة الحالية
على أن الخسارة الأعظم هي فيما إذا أخفقت هذه السياسة الحالية حتى عن تثبيت سعر صرف الليرة، وهو احتمال قائم يجب أن يؤخذ في الحسبان للأسباب التالية:
1- أن تحسن سعر صرف الليرة آت كله من بيع الدولار لشراء أوراق مالية يعرضها مصرف لبنان بأسعار في منتهى الإغراء ليس لتمويل عجز في سيولة الخزينة أو مشروع انتجي بل فقط لحمل الناس على بيع دولاراتهم ليشتريها مصرف لبنان.
2- أن معظم ما أضافه مصرف لبنان إلى احتياطه من العملات الأجنبية هو ذلك الناتج مباشرة عن ترويج سندات الخزينة والودائع لأجل.
3- أن سندات الخزينة والودائع لأجل لدى مصرف لبنان تستحق تباعاً في آجال قريبة من أيام قليلة إلى سنة على الأكثر، ويقدر أن أكثر من نصفها يستحق في الثلاثة أشهر المقبلة.
4- أن الخيار يظل قائماً أمام حملة السندات والودائع عند استحقاقها إما أن يعيدوا وضعها حيث هي أو أخذ ثمنها وتحويله دولارات، وعندها يكون المصرف أمام خيارين أحلاهما مر: فإما أن يبيع ما عنده من الاحتياط إلى راغبي الدولار وإما أن يترك سعر الدولار يرتفع ليحتفظ هو باحتياطه وعندها تتدنى القيم الحقيقة للسندات والودائع التي تستحق لاحقاً.
5- أن معظم أموال الناس لا تزال بالعملات الأجنبية وفي آخر تقدير لودائع الناس في المصارف ـ نهاية شهر كانون الثاني 1988 ـ أن نسبة الودائع بالليرة من مجموعة الودائع بالليرة والدولار. (مقومة بالسعر الحالي) هي أقل من 10 بالمئة. وهذا، وإن تحسن في شباط وآذار وما بعد فإنه يدل على أن استقرار سعر صرف الليرة الحالي ليس إلا حصيلة عمليات السندات وودائع المصرف المركزي لأجل وليس انعكاساً لاستعادة لثقة الناس بالعملة.
وأخيراً فإن السياسة الحالية مبنية على القول بأن التعافي النقدي يمكن أن يسبق التعافي السياسي والاقتصادي في البلد، وهذا قول غير واقعي لأن الليرة كالدولار نقد ورقي وليس نقداً معدنياً وطبيعته أنه إلزامي لأن القانون يعطيه قوة إبرائية أي إبراء الذمة، فهو يعتمد في الأساس على ثقة الناس بالإلزام وبالقانون وبالدولة وهيبتها، فكيف يمكن القول أن التعافي النقدي يمكن أن يسبق التعافي السياسي والاقتصادي.
وفي أحسن الأحوال قد يكون القول أن التعافي يمكن أن ينبني على توقعات التعافي السياسي والاقتصادي،وإذا كان كذلك فهل يجوز لمصرف لبنان أن يبني آمالاً ويحرك أموال الناس ويعرض بالتالي آمالهم وأموالهم إذا لم تكن التوقعات في محلها. وهل التوقعات هذه هي من عمل السلطة النقدية؟
1988-09-05