الفكر الإسلامي والنهوض به
1988/09/05م
المقالات
2,301 زيارة
بقلم: غسان الدويك
هل قضية الأمة الإسلامية بوصفها أمة هو إيجاد العقيدة الإسلامية عندها وتقوية اقتصادها، والتعليم والثقافة فيها، وإصلاح تشريعها وإيجاد دستور وقوانين لها، أم أن قضيتها هي ربط عقيدتها بدستورها وقوانينها أي إيجاد الثقة بالأفكار والنظم المنبثقة عن العقيدة الإسلامية.؟
يحتوي هذا الموضوع على ثلاثة أمور هامة هي الفكر، وصفته، والنهضة به، وقبل ربط هذه الكلمات الثلاثة مع بعضها البعض لا بد من فهم واقع هذه الكلمات، أي لا بد من بلورة معاني هذه الكلمات ومدلولاتها، حتى يتيسر السبيل أمام البحث.
– أما الفكر فهو ببساطة عبارة عن حكم على واقع، فأي فكر في الدنيا يجب أن يتعلق بواقع وإلا فلا يعتبر فكراً مطلقاً، لأن الحكم على غير واقع وهو وهم أو خيال أو هو فرض في أحسن الأخوال ولو أردنا أن نبين كيفية إصدار الدماغ الحكم على الواقع لا بد له من شروط:-
أولها: وجود واقع محسوس أو أثر الواقع المحسوس كي تقع عليه حواس الإنسان.
ثانيها: وجود دماغ إنسان عاقل يربط، وذلك بخلاف دماغ الحيوان أو المجنون أو الطفل.
ثالثها: وجود واسطة نقل بين الواقع والدماغ ألا وهي الحواس الخمسة الموجودة عند الإنسان.
ورابعها: وجود المعلومات السابقة التي يتم بها تفسير الواقع.
ولنأخذ الإنسان الحالي أي إنسان ونعطيه كتاباً سريانياً ولا توجد لديه معلومات تتصل بالسريانية ونجعل حسه يقع على الكتابة بالرؤية واللمس، ونكرر هذا الحس مليون مرة، فإنه لا يمكن أن يعرف كلمة واحدة حتى يعطى معلومات عن السريانية، وعما يتصل بها فحينئذ يبدأ يفكر بها ويدركها.
فالحيوان أو المجنون والطفل كل منها لا يفكر أي لا يدرك عقلاً، وذلك بسبب فقدان عنصر الربط في دماغه، بمعنى أنه لا يستطيع ربط الواقع بالمعلومات السابقة، وإنما الذي يحصل عند الحيوان والمجنون والطفل هو مجرد تمييز غريزي أو إدراك شعوري، وكثيراً ما اختلط على الناس الفكر بالتمييز الغريزي فعجزوا عن التمييز بينهم، فوقعوا في أخطاء كثيرة فمنهم من جعل للطفل حين يولد عقلاً وفكراً، ومنهم من جعل للحيوان فكراً، ومنهم من جره عدم التمييز بين الفكر والتمييز الغريزي إلى الضلال في تعريف الفكر وإلى الخطأ في فهم ما هو العقل، ولهذا كان بيان ما هو التمييز الغريزي ضرورياً، كما أن بيان ما هو الفكر أو العقل أو الإدراك ضرورياً. والتمييز الغريزي يحصل عند الحيوان من جراء تكرار إحساسه بالواقع ذلك أن الحيوان لديه دماغ ولديه حواس كما هي الحال عند الإنسان، إلا أن دماغ الحيوان خال من القدرة على الربط، وإنما فيه مركز للإحساس فقط، فلا توجد لديه معلومات سابقة يربطها بالواقع أو بالإحساس، وإنما توجد لديه انطباعات عن الواقع، وسيعيد هذه الانطباعات حين الإحساس بالواقع. وهذه الاستعادة ليست ربطاً وإنما هي تحرك لمركز الإحساس من جراء الإحساس بالواقع الأول أو بواقع جديد يتصل بالواقع الأول، فيحصل من هذه الاستعادة للإحساس تمييز غريزي، وهو الذي يعين سلوك الحيوان نحو إشباع الغريزة أو الحاجة العضوية، ويكون هذا السلوك فقط للإشباع أو عدم الإشباع، ولا يكون لغير ذلك مطلقاً. فمثلاً إذا قدم لحيوان أو طير طعام فإنه يميز كونه يؤكل أو لا يؤكل ثم يعين سلوكه نحوه، فيأكله أو يعرض عنه ولا يزيد على ذلك. وقد تحصل عنده تجارب معقدة فيصدر عنه استعادة الإحساس بما يشبه التفكير، ولكنه في الحقيقة استعادة لما سبق أن أحسه، وليس ربطاً بمعلومات، مثال ذلك تجربة سرقة الفئران للبيض، فإنه شوهد أن فأرين يذهبان إلى سوق البيض فينبطح أحدهما على ظهره، ويدفع الآخر البيضة على بطن الفأر المنبطح فيقبض ذاك رجليه عليها ويسحبه الفأر الآخر من ذنبه إلى وكرهما حتى يضعا البيض فيه ثم يرجعان للإتيان بغيرها على الوجه السابق، فهذه العملية معقدة ولكنها نتجت عن تجارب في استعادة المحسوسات لا عن ربط المعلومات. وعلى هذا فإن التمييز الغريزي هو إحساس بالواقع بواسطة الحواس يحصل به تمييز الشيء من كونه يشبع أو لا يشبع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح وهكذا، بخلاف الفكر فإنه ينقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ومعلومات سابقة تفسر هذا الواقع فالفكر حكم على الشيء، والتمييز الغريزي تبيان أن الشيء يشبع أو لا يشبع ليس غير وبذلك نستطيع القول جزماً بأن الإنسان يتميز عن سائر المخلوقات الأخرى بعقله، وانتفاء العقل عنه يرده حيواناً، فالعقل هو الأداة التي رفعته على سائر المخلوقات وهي الصفة التي جعلت منه سيد الكون.
إلا أن هذا العقل محدود لأنه لا يتعدى الواقع ولأنه بحاجة إلى معلومات وهذه والمعلومات يأخذها من مصادر محدودة ولأن قوة الربط الموجودة في دماغه محدودة أيضاً.
قد يقال أن الروح هي التي ترتقي بالإنسان إلى أعلى الدرجات، قد يقال ذلك، والجواب: هو أن الروح التي بمعنى سر الحياة لا ندرك ما هي ولسنا مطالبين شرعاً بذلك وهي فوق ذلك موجودة عند الإنسان المؤمن والكافر على السواء وكذلك فهي موجودة عند الحيوان، وأما الروح التي بمعنى: «إدراك الإنسان صلته بالله عز وجل» فهي نوع من أنواع الفكر، أو الإدراك، إذ الإدراك هو فكر بحد ذاته ولكن الإدراك المتعلق بالصلة بالله هو الروح، فأصل الروح في هذا المعنى راجع إلى الفكر أيضاً.
وبناء على ما تقدم نستطيع القول: بأنه لا يوجد شيء يكون أساساً للنهضة غير الفكر سواء أكان هذا الفكر كلياً كالمبدأ والعقيدة أو جزئياً كفكر اقتصادي أو اجتماعي أو أي فكر قانوني آخر، أو كان هذا الفكر صحيحاً أم خطأ، أم كان هذا الفكر عميقاً أو سطحياً. المهم أنه لا يمكن أن يدرك الإنسان وينهض بدون فكر، أي فكر، وأن الفكر هو الحكم على الشيء وفهمه، وبدون الحكم والفهم لا يمكن الارتقاء والنهوض.
ولهذا لا يقال بأن هناك ما ينهض غير الفكر، لأن انعدام الفكر يعني انعدام الإنسان بوصفه إنساناً ولا يؤمل من الحيوان والجماد أية نهضة!!
وإذا تم الإيمان بالفكر وأدرك معناه تماماً في الذهن تحول الفكر وأضحى مفهوماً، وعندها يتغير سلوك الإنسان لأن السلوك مربوط بالمفاهيم، فلا يتغير السلوك إلا إذا تغيرت المفاهيم، فالمفاهيم هي التي توجه الإنسان سواء كان فرداً، أم جماعة، أم دولة، والأفكار هي التي توجد المفاهيم، لأن المفهوم هو معنى الفكر.
ومن هنا كانت الأفكار هي التي تغير المجتمعات وتدفع بها إما إلى النهوض أو إلى الانحطاط.
هذا هو واقع ومعنى الفكر. أما اقتران كلمة «الإسلامي» فهو تمييز لنوع الفكر ألا وهو الفكر الإسلامي، فالبحث إذاً ليس في أي فكر وإنما فقط في الفكر الإسلامي.
ترى ماذا يعني الفكر الإسلامي؟!
قد يظن البعض بأن الفكر الإسلامي يتعلق فقط بالأمور العقائدية أو بالأمور السياسية، ويجهلون أو يتجاهلون أن العبادات والأخلاق والمطعومات من الفكر الإسلامي، والواقع أن الفكر الإسلامي يحتوي على كل ما في الإسلام من أحكام، سواء أكانت أحكاماً تتعلق بالعقيدة أن كانت تتعلق بالنظام، فمبدأ الإسلام الذي هو عقيدة ونظام كله أفكار إسلامية، فالعقيدة هي مجموعة أفكار إسلامية والنظام المنبثق عنها هو أيضاً مجموعة أفكار إسلامية، فـ «لا إله إلا الله» فكر و«أن الله هو الرزاق» فكر و«أن الله يحي ويميت » فكر وكذلك «وأحل الله البيع» فكر، و«المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فكر، إذ كل من هذه النصوص سواء أكانت من العقائد أم من النظام كلها أفكار بمعنى أنها جميعاً هي أحكام على وقائع، فالفقيه عمله تنزيل الحكم الشرعي على المسألة أو الواقع، أي عمله هو استنباط الفكر الإسلامي من النص وتنزيله على الواقع.
ومن المستحسن أن ننوع هنا إلى دور العقل في الإسلام: فالإسلام أولاً هو من عند الله وهو في جميع أحكامه العقائدية والعملية من عند الله الخالق إلا أن الإسلام ميز بين دور العقل في العقائد ودوره في الأحكام الشرعي. فعمل العقل في العقائد هو إثبات صحة العقائد وذلك بإيجاد أدلة من عنده ـ العقل ـ تثبت صحة العقائد كإثبات وجود الخالق، أما إثبات وجود الجنة والنار وما شاكلها من المغيبات فالعقل صدقها عن طريق إثبات أن القرآن الكريم من عند الله فصدق كل ما ورد في القرآن من عقائد من مثل المغيبات المذكورة بإثبات أن القرآن من عند الله ثبت بالدليل القطعي.
هذا بالنسبة لعمل العقل في العقائد وأما عمله في الأحكام الشرعية، فهو عبارة عن أداة فهم واستنباط للحكم الدال على المسالة من النص، أي هو استخراج الحكم من النص ولا يزيد، فالفكر الإسلامي إذاً هو الإسلام بمعنى آخر لأن الإسلام هو فكر، أو قُلْ مجموعة أفكار، أي مجموعة أحكام على وقائع موجودة، فلا إله إلا الله هو حكم على واقع موجود فعلاً، أي هو فكر (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) هو حكم على واقع موجود فعلاً، أي هو فكر، وهكذا فالإسلام كله أحكام على وقائع أي كله أفكار.
والفكر الإسلامي هو فكر مبدئي، وليس فكراً مصلحياً أو فرعياً أو قاصراً، ومعنى كونه فكراً مبدئياً أنه يحوي أمرين:-
أولاً: العقيدة: وهي الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة وعن ما قبل الحياة الدنيا وعن ما بعد بعدها وعن علاقة ما قبل الحياة بالحياة وما بعد الحياة بالحياة.
والفكرة عندما تكون كلية فهي تفسر الكون والإنسان والحياة وما يرتبط بها، والفكرة الكلية في الإسلام ـ العقيدة ـ تبين أن الكون والإنسان والحياة مخلوقة لخالق خلقها من العدم وتبين أن هذا الخالق قبلها لأنه قديم أزلي وكذلك تبين أن هناك يوم قيامة سيأتي بعد الحياة الدنيا، وتبين أيضاً علاقة الحياة الدنيا بما قبلها وهي أوامر الله ونواهيه التي يجب السير بحسبها وتبين أخيراً علاقة الحياة الدنيا بما بعدها من أن الله سيحاسب الإنسان على اتباعه لأوامره ونواهيه في حياته الدنيا.
والعقيدة الإسلامية تطابق فطرة الإنسان وتنبني على عقله، أما من حيث الفطرة، أي غريزة التدين فالإنسان مفطور على التدين أي على الشعور بالعجز تجاه قوة أكبر منه، ولهذا كانت العقيدة الإسلامية ملبية لهذا الشعور بشكل صحيح، فلا هي حاولت إلغاءه وكبته، ولا هي أشبعته إشباعاً شاذاً، بل هي لبت هذا الشعور الغريزي الكامن في فطرة الإنسان بشكل صحيح تجاه خالق الكون والإنسان والحياة، فليس فها عبادة أصنام ولا أشخاص، وبذلك كانت العقيدة الإسلامية موافقة لفطرة الإنسان.
وأما كونها مبنية على العقل، فإن العقل ببساطة يستطيع أن يجزم بصحتها، إذ أن إعمال العقل في مظاهر السموات والأرض يوصله قطعاً إلى خالق خلقها من عدم، إذ أن احتياجها ومحدوديتها ودقة إبداعها تدل دلالة قطعية على وجود الخالق الأحد الأزلي الذي خلقها ودبرها.
وبهذا كانت العقيدة الإسلامية مطابقة للفطرة ومبنية على العقل، مما جعلها تملأ قلب المؤمن بها طمأنينة وتملأ عقل المصدق بها قناعة.
ومن هنا كان الفكر الإسلامي المبدئي فكراً شاملاً لحياة الإنسان العقلية والعملية فإذا تبنته دولة استطاعت به أن تصل إلى المرتبة الأولى وأن تقتعد الذرى وتناطح الجبال الصم وتقهر الجبابرة والعتاة، وليس ذلك حلماً، وإنما هو حقيقة وقعت فعلاً وستقع بإذن الله في المستقبل القريب، فلقد استمرت الدولة الإسلامية بوصفها دولة مبدئية تبنت الفكر الإسلامي، واستمرت عشرة قرون كدولة أولى في العالم، انصهر في بوتقتها أقوام من أجناس شتى ولم يزعزعها إلا ضعفها الفكري وما نتج عنه من ضعف سياسي.
وبعد أن بينا ما هو الفكر، وبعد أن أجملنا ملامح الفكر الإسلامي باقتضاب، لا بد لنا من ربط ذلك كله بالنهضة، لا سيما النهضة اليوم.
فالنهضة هي:- الارتقاء الفكري.
والنهضة الصحيحة: هي الارتقاء الفكري على أساس وحي. فإذا وجدت الأفكار، أية أفكار، وجدت النهضة، وإذا عدمت الأفكار عدمت النهضة، وأما النواحي المادية التكنولوجية فهي مرتبطة ارتباطاً حتمياً بالأفكار، وهي توجد حيث توجد الأفكار وتختفي حيث تضمحل الأفكار، ولكننا بوصفنا نبحث عن النهضة على أساس الفكر الإسلامي، فإننا لا نبحث عن أية نهضة، ولكننا نبحث عن نهضة معينة، هي النهضة الصحيحة. إنا بوصفنا مسلمين نؤمن بصحة الفكر الإسلامي لا بد أن يكون لها علاقة بإدراك الإنسان صلته بالله عز وجل، وبما أن هذا النوع من الإدراك هو الروح فإن الارتفاع الفكري يجب أن يرتكز إلى الروح أي إلى إدراك صلة الإنسان بالله.
ولتبسيط ذلك نقول:- أن القيام بعمل ما هو سلوك مادي بحث، وإدراك الإنسان صلته بالله حين القيام بالعمل هو مزج المادة بالروح، ومن هنا تعرف النهضة الصحيحة ـ النهضة على أساس الفكر الإسلامي ـ بأنها الارتفاع الفكري على أساس روحي.
إلا أن بعض الناس عميت عليهم سبل النهضة فراحوا يطرحون اعتباطاً سبلاً غير صحيحة للنهضة وإن جاز التعبير راحوا يطرحون سبلاً للانحطاط.
فمنهم من قال بأن طريق النهضة إنما يأتي من جهة الاقتصاد، فإذا وجد الاقتصاد المزدهر وجدت النهضة والعكس صحيح. وبذلك يكون سبب النهوض هو الغنى والفقر فالغنى سبب للنهضة والفقر سبب للتخلف.
والواقع أنه من التضليل أن يقال أن سبيل النهضة هو الاقتصاد، لأن الاقتصاد والنظام الاقتصادي هو فرع من نظام منبثق عن العقيدة وليس أساس، ولأن هنالك دولاً من أغنى دول العالم كالسعودية ومن ذلك فهي دول منحطة، فالانحطاط فيها كان في الأفكار الكلية والفرعية على السواء وليس في الأفكار الاقتصادية فحسب، وعلاوة على ذلك فإن أمتنا من أغنى الأمم وهي منحطة، مما يدل على أن الاقتصاد لا دخل له في النهضة، وإنما الفكر الذي يوجه الاقتصاد والفكر الأساسي هو الأساس في النهضة.
ومثال آخر عن فساد أن الاقتصاد سبب النهضة وهو اليابان، فبلاد اليابان تعتبر من أفقر بلاد العالم ثروة، ومع ذلك فهي من أغنى بلاد العالم اقتصاداً.
ومنهم من قال بأن سبيل النهضة هو العقيدة، ويحتج القائلون بذلك بأن العقيدة هي أساس المبدأ وجوهر الدين.
والحقيقة أنه من الخطأ أن يقال بأن سبيل النهضة هو العقيدة، وذلك لأن العقيدة، وإن كانت أساس المبدأ، وإن كانت أيضاً صحيحة، إلا أنها لا تحتوي على النظام، فالعقيدة هي عبارة عن حقائق عن الكون والإنسان والحياة وما وراء ذلك فقط وليس فيها معالجات وكيفيات تنفيذها، ومثال ذلك النصرانية واليهودية والمجوسية فهي عقائد ـ وإن كانت خاطئة ـ لا يوجد فيها ما يعالج مشاكل الإنسان.
فالمبدأ الذي هو عقيدة زائد نظام هو الذي ينهض الإنسان فكراً وسلوكاً وليس العقيدة وحدها. إلا أن العقيدة الإسلامية قد فقدت بين جماهير المسلمين ثلاثة أمور لا بد ن إعادة النظر فيها هي:
أ- فقدت إدراك المسلم القوي للآخرة، أي لم تعد العقيدة تثير في النفس الحنين إلى الجنة والرهبة من النار.
ب- فقد إدراك المسلم لعلاقة النظام بالعقيدة وعدم فصله عنها.
جـ- فقدت كونها الرابطة الوحيدة المعترف بها في الإسلام والتي تجمع المسلمين تحت لوائها.
ولما فقدت العقيدة هذه الأمور الثلاثة غاضت منها الحيوية في النفس، هذه هي مشكلة العقيدة.
ومنهم من قال بأن النهضة تعتمد على الأخلاق عند الأفراد، فإذا وجدت الأخلاق عند الأفراد وجدت النهضة واستدلوا على قولهم هذا بآيات مثل:
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وكذل استدلوا بقول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
.
|
|
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
.
|
والواقع أن الأخلاق لا تنهض المجتمع وذلك لأن الأخلاق هي صفات تتعلق بالفرد وهي صفات ناجمة عن أفكار والأصل فيها ليس الخلق بحد ذاته وإنما الفكر الذي نجم عنه الخلق، فمثلاً الصدق موجود عند المسلم والأميركي ـ الرأسمالي ـ ولكن الفرق في قيمته عند الاثنين لا تتمثل بذات الخلق وهو الصدق وإنما بالفكر الذي نجم عنه هذا الخلق، فالأميركي يصدق لكي يحقق مصلحة أو منفعة بينما المسلم يصدق لأن الله تعالى أمره بالصدق لا لأن الصدق صفة جميلة أو لأنه يحقق منفعة.
ومن ناحية أخرى فالأخلاق هي أحكام فرعية تنبثق من العقيدة فلا يعقل أن تكون الأحكام الفرعية هي أصل النهضة وتترك العقيدة التي انبثقت عنها هذه الأحكام.والمرء الذي يلتزم بالمبدأ ككل فإنه يلتزم بالفرعيات كالأخلاق بشكل أوتوماتيكي لأنه لا معنى للمرء إذا تمسك بمبدأ وتخلى عن فرعياته.
ومن هنا كانت الدعوة إلى الأخلاق في المجتمع خاطئة وخطيرة، خاطئة لأنها دعوة لشيء فرعي فصل عن كلياته، وخطيرة لأنها تغض النظر عن المبدأ ككل وتضع المبدأ كله في كفة وتضع الأخلاق في كفة أخرى.
ومنهم من قال بأن سبيل النهضة هو جود العلم والعلماء، والدليل على ذلك هو أن الدول المتقدمة فيها علماء وعلم وفير وأن الدولة المتخلفة لا علم فيها ولا علماء.
والصحيح أنه من السذاجة أن يقال بأن سبيل النهضة هو وفرة العلم والعلماء، وذلك أن الدول المتقدمة لم يكن ليوجد لديها علم وعلماء لولا تقدمها الفكري، وكذلك فالدولة المتخلفة مليئة بالعلماء والوفرة العلمية فيها موجودة إلا أنها لا تستغل بسبب تخلفها الفكري وليس تخلفها العلمي، فمصر والأردن مثلاً يوجد منها عشرات العلماء يعملون في أميركا.
ومنهم من قال بأن سبيل النهضة هو سن القوانين والتشريعات، واستدل القائلون بذلك بأن تقدم الزمن يوجد مشاكل جديدة ويوجد مسائل جديدة بحاجة إلى قوانين، فقالوا بأن حل هذه المشكلات جميعاً سن قوانين وتشريعات جديدة لها.
والمناسب أنه من غير الدقة أن يقال بأن سبيل النهضة هو سن القوانين والتشريعات، وذلك لأن القوانين والتشريعات إذا وجدت من غير أساس عقائدي، كانت وكأنها مبتورة من شجرة فلا بد من ربط القوانين والتشريعات بالأساس التي يجب أن تنبثق عنه ألا وهي العقيدة.
والصحيح أن القضية هي ربط الأحكام والأنظمة بالعقيدة التي انبثقت عنها وبمعنى آخر فالقضية قضية مبدأ، أي قضية عقيدة ونظام، وقضية فكرة وطريقة، قضية فكرة كلية وأفكار فرعية، قضية عقدية ومعالجات وكيفيات.
«فقضية الأمة الإسلامية بوصفها أمة، ليس إيجاد العقيدة الإسلامية عندها ولا تقوية اقتصادها، ولا إيجاد التعليم والثقافة فهيا، ولا هي إصلاح تشريعها وإيجاد دستور وقوانين لها وإنما القضية هي ربط عقيدتها بدستورها وقوانينها أي جعل التصديق الجازم المطابق للواقع الموجود عند الأمة في عقيدتها منصباً على دستورها ونظمها. وبعبارة أخرى هي إيجاد الثقة بالأفكار والنظم المنبثقة عن العقيدة الإسلامية، هذه هي القضية بالدقة والتحديد».
وهكذا يجب أن تفهم عملية النهضة، والالتزام بهذا الطريق هو الوحيد الذي يمكن أن يحدث عملية التغيير الحقيقي نحو الأفضل.
مصادر البحث:
1- الفكر الإسلامي ـ محمد محمد إسماعيل.
2- التفكير ـ تقي الدين النبهاني.
3- نداء حار ـ تقي الدين النبهاني.
1988-09-05