كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، غير راض على سياسة أبي جعفر المنصور بشكل عام، وخصوصاً قسوته وشدته مع خصومه، وخصوم آبائه العباسيين، وكانت المخاصمة شديدة والقسوة عنيفة مع العلويين، ومن يظهر التودد إليهم أو الترحم عليهم.
والإمام أبو حنيفة كغيره من أئمة المسلمين وأجلاء العلماء يحبون العلويين ولهم مكانة طيبة في قلوبهم.
ثم إن الإمام رحمه الله تعالى جريء في فتاواه، صريح في أجوبته، شديد في محاسبته أبي جعفر، كثير النقد، لأحكام قضاته، وتصرفات ولاته، تمثلت به رجولة العالِم وشجاعة المؤمن، وصلابة الفقيه المتمسك بأحكام الشرع، لا يعرف نفاقاً ولا يسلك طريقاً منحرفاً في دعوته، ولا يهاب سطوة سلطان ولا يخشى قوة حاكم في قولة الحق، والمنصور أبو جعفر عرف هوى الإمام وأدرك نزعته السياسية والروحية، وتلك نزعة لم تنل رضاه، وهوى يغضبه وسلوك لا يريده، ولكن.. ماذا يفعل مع رجل عالم أوتي لساناً صادقاً وتأثيراً روحياً دفاقاً، يعمل ما لا يعمل الحسام.
لأن ألسنة العلماء وهي غضاب تعمل ما لا تعمل السيوف العضاب. ثم في أي درب يسير عليه المنصور مع إمام أحبه الناس وملك قلوبهم. فمنه تؤخذ الفتوى وبه يقتدى. لسلامة قلبه وحسن سيرته وسعة علمه، ومزيد تقواه، وكلما تقرب منه شبراً ابتعد عنه الإمام ذراعاً ملتمساً بذلك إسكاته أو جره إلى صفوفه فكان قرباً لم يرد به وجه الله تعالى والدار الآخرة.
لذلك فليس من السهولة والحالة هذه أن ينزل بإمامنا محنة أو يوقع به أذى. دون أن يلتمس المبررات التافهة، والذرائع الباطلة لتكون سبباً ظاهرياً لها. فعل ذلك في الوقت الذي عجز أن يؤاخذ إمامنا الجليل على مولاته لآل سيدنا علي رضي الله عنهم تلك التي نعتقد أنها السبب الخفي المباشر لمحنته.
والخير في هذه الموالاة بل هي مما دعا إليها الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام.
فلا حق لحاكم مثل أبي جعفر أن يؤاخذ أحداً بسببها. ولكنها العصبية العائلية وحب السلطان التي تعمي البصائر والأبصار عن رؤية الحق الواضح.
ومن الأسباب الظاهرة التي اتخذها المنصور ذريعة لمحنته الجائرة، أن أبا حنيفة كان جريئاً في بيان خطأ حكم القضاة في المسائل التي تعرض عليهم خصوصاً إذا خالفت رأيه الذي يعتقده صواباً، فيشكوه القضاة ليمتنع عن ذلك.
(فقد روى أن ابن أبي ليلى القاضي، نظر في أمر امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين، فأقام عليها الحد في المسجد قائمة، وحدّها حدين حداً لقذف أبيه، وحداً لقذف أمه، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال أخطأ فيها في ستة مواضع. أقام عليها الحد في المسجد، ولا تقام الحدود في المساجد، وضربها قائمة والنساء يضربن قعوداً، وضرب لأبيه حداً ولأمه حداً ولو أن رجلاً قذف جماعة كان عليه حد واحد، وجمع بين حدين ولا يجمع بين حدين، حتى يخف أحدهما، والمجنونة ليس عليها حدّ، وحدّ لأبوية وهما غائبان ولم يحضرا فيدعيا، فبلغ ذلك ابن أبي ليلى فدخل على الأمير فشكاه إليه، وحجر على أبي حنيفة. وقال: لا يفتي فلم يفتِ أياماً).
وهكذا بدأت المحنة تدنو منه شيئاً فشيئاً وهو صابر مصابر محتسب، المحنة أخذت بالتتابع سريعة تنذر بوقوعها حيث سلك المنصور سبلاً أخرى، فأرسل إليه هدية ثمينة وهو يعلم أنها مردودة عله لا محالة. ولكنه فعل ذلك ليضيف سبباً آخر وحجة أخرى.
ولعل من المناسب إعادة ذكرها هنا لتسلسل الموضوع (أرسل إليه أبو جعفر بجائزة عشرة آلاف درهم وجارية، وكان عبد الملك بن حميد وزيره.. فقال لأبي حنيفة عندما رفضها: أنشدك الله أن أمير المؤمنين يطلب عليك علة فإن لم تقبل صدق على نفسك ما ظن بك فأبى…).
وحين أراد المنصور أن يحرج أبا حنيفة ويتخذ من رفضه لمنحه وعطاياه ممسكاً أرسل إليه وقال له: (فلم لا تقبل صلتي فقلت (أي أبو حنيفة) ما وصلني أمير المؤمنين في ماله بشيء فرددته ولو وصلني بذلك لقبلته إنما وصلني أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين ولا حق لي في بيت مالهم، إني لست ممن يقاتل من ورائهم، فآخذ ما يأخذه المقاتل، ولست من ولدانهم فآخذ ما يأخذ الولدان، وليست من فقرائهم فآخذ ما يأخذه الفقراء…).
ثم هاك سبباً آخر.
لقد مر بنا أن إمامنا الممتحن، إبان وجهة نظرة في قتال أهل الموصل. وكان جوابه ذاك أغاظ المنصور، فأسرها في نفسه واحتفظها عنده. وهنا برر للمنصور سبباً آخر وطلباً قد يكون وجيهاً، وذريعة ظنها محكمة ليجعل منها في إنزال المحنة بإمامنا الجليل، والمنصور يعلم مسبقاً أن طلبه مردود عليه أيضاً.
ذلك هو توليه رئاسة القضاة في الدولة الإسلامية، فإن امتنع أخذه بهذا المنع، جهرة وأمام الناس، ملتمساً بذلك عذراً عند العوام ـ وهم سواد الناس ـ الذين لا يدركون بواطن الأمور ولا دوافع المطالب، مطالب الحكام، ثم أن أبا حنيفة وهو شيخ الفقهاء في العراق، وهو بحر في العلم لا تكدره الدلاء، فمن الصواب أن يكره على تولي القضاء لرفع منار العدل والحق في أرجاء الدولة، وليس في الإكراه ظلم ظاهر عند العوام… وإن رضي بهذه التولية تم الصلح بينهما وحسم النزاع، وآمن الإنكار، وانتهت المناوأة، وأنى له عند ذاك أن ينكر ويناوئ ويعترض وقد أصبح من رجالات الدولة، ومن المسؤولين في الحكم والمشتركين فيه.
بهذا سولت للمنصور نفسه، فأقدم عليه بحزم.
استدعى المنصور أبا حنيفة وعرض عليه تولي هذا المنصب الخطير، فامتنع وأعرض ولنسمع الحادثة من إمامنا نفسه:
(.. إن هذا دعاني للقضاء فأعلمته أني لا أصلح، وأني لا أعلم أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولكنه لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نفس يحكم بها عليك، وعلى ولدك وقوادك، وليست تلك النفس لي، إنك لتدعوني فما ترجع نفسي حتى أفارقك).
وجاء في هذا الرفض في مجلس آخر عن الربيع بن يونس: (رأيت أمير المؤمنين ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء وهو يقول له: اتق الله ولا تدع أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو إلى الحكم لاخترت أن أغرق. لك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك فلا أصلح لذلك، فقال: كذبت إنك تصلح. فقال: قد حكمت على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك كذاباً؟).
وهنا حصل المنصور على ما يريد، ونال ما بيت في نفسه، فأنزل به المحنة… أذكرها بروايتها كما رويت في كتب المناقب.
روي عن داود بن راشد الواسطي، أنه قال: (كنت شاهداً حين عذب الإمام ليتولى القضاء، كان يخرج كل مرة فيضرب عشرة أسواط حتى ضرب عشرة ومائة سوط، وكان يقال له: اقبل القضاء، فيقول: لا أصلح فلما تتابع عليه الضرب؟ قال خفياً: (اللهم ابعد عني شرهم بقدرتك) فلما أبى دسوا عليه السم فقتلوه).
(وروي أن أبا جعفر المنصور حبس أبا حنيفة على أن يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة فأبى حتى ضرب مائة وعشرة أسواط وأخرج من السجن ومنع من الفتوى والجلوس للناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حالته إلى أن توفى).
تلك محنة الإمام أبي حنيفة، منعاً عن التدريس والإفتاء. وإقامة جبرية في الدار، وضرباً بالسياط، وحبساً في السجن ثم قتلاً بالسم إن صدقت الرواية، كل ذلك لأنه أبى أن يساير الحكام في أهواءهم وأن يوافق على أعمالهم وأن تستجيب لطلباتهم… وهكذا ينبغي أن يكون العلماء في كل حين إن كانوا علماء حقاً.
.. مات أبو حنيفة كما يموت الصديقون والشهداء وكان ذلك سنة 150 هـ وكان في الموت راحة لذلك الضمير المضيء ولذلك الوجدان الديني المرهف، ولذلك القلب القوي، ولذلك العقل الجبار، ولتلك النفس الصبور، التي لاقت الأذى فاحتملته، لاقته من المخالفين له في الآراء ورميت في كل رمية، فتحملها مطمئنة راضية مرضية، ولقيت الأذى من السفهاء ثم لقيته من الأمراء والخلفاء.
وما ضعفت وما وهنت، وإذا كان للنفوس جهاد، ولجهادها ميادين، فأبو حنيفة رضي الله عنه كان أعظم أبطال ذلك النوع من الجهاد، وممن انتصر في كل ميادينه.
وكان جلداً في جهاده قوياً في جلاده، حتى وهو يلفظ النفس الأخير فهو يوصي بأن يدفن في أرض طيبة لم يجر عليها غضب، وألا يدفن في ارض اتهم أمير بأنه غصبها حتى يروى أن أبا جعفر عندما علم ذلك قال: (من يعذرني من أبي حنيفة حياً أو ميتاً..).
ويموته رضي الله عنه انتهت محنته ثم تتابعت المحن تنزل بأقرانه من أئمة المسلمين…