سقطةُ العلمانيين العرب وإفلاسُهم الفكري
أشرف أبو خديجة – الجزائر
يتزايد الحديثُ والجدلُ من حين لآخر عن “العلمانية” في البلاد الإسلامية، وفي البلاد العربية منها تحديدًا. وأنها من وجهة نظر مناصريها الأسلوبُ الأمثل للحكم ولتسيير الشأن العام في المجتمعات، ولوضع حد للصراعات والنزاعاتِ الطائفية والمذهبية والعرقية. إذ هي، من بين نظم الحكم، ما يسمح بوجود مساحة للعيش المشترك بين جميع الناس (المواطنين) على اختلاف معتقداتهم الدينية وتوجهاتهم السياسية والفكرية، وما يحقق المساواة بينهم في الحقوق والواجبات، وما إلى ذلك من الجمل الرنانة والمصطلحات والعبارات البراقة التي تُطرب مَن يسمعها. ويعتقد هؤلاء أنه قد آن الأوان للعيش في وئامٍ وسلام ومودةٍ بين الجميع، وأن العلمانيةَ هي الحل الوحيد لكل الصراعات ولكل مشاكل المنطقة. وهذا اعتقاد غير صحيح البتة.
تعريف العلمانية:
إن العلمانية تختلف تعريفاتـُها وقواعدها من مجتمع لآخر ومن دولة لأخرى، بل ومن زمن لآخر. وبحسب دائرة المعارف البريطانية فإن العلمانية هي “حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضيةِ (الدنيوية) بدلًا من الاهتمام بالشؤون الأخروية (حياة ما بعد الموت). وهي تعتبر جزءًا من النزعة الإنسانيةِ التي سادت منذ عصر النهضة الداعيةِ لإعلاء شأن الإنسانِ والأمور المرتبطة به بدلًا من الإفراط في الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الآخر”. وهو تعريف قريب الشبه بما طرحه الفيلسوف الإنجليزي “جون لوك” الذي كتب في موضوع العلمانية قائلًا: “من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهِكَ نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. فيجب أن تكون الدولةُ منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصرَ العقل، ولأول مرةٍ في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارًا، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة”!.
إن التعريف الشائع للعلمانية في الكتب الإسلامية المعاصرة هو “فصل الدين عن الدولة”، وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكاملَ للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة مباشرة بالدولة، ولو قيل إنها “فصل الدين عن الحياة” لكان أصوب؛ ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو إقامة الحياة على غير أساس الدين، سواء بالنسبة للأمة أم للفرد، ثم يختلف الأفرادُ وتختلف الدولُ في موقفها من الدين بمفهومه الضيِّق المحدود، فبعضها يسمح به، كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية، وتسمي منهجَها (العلمانية المعتدلة)، أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين، وذلك مقابل ما يسمى (العلمانية المتطرفة) أي المضادة للدين، ويعنون بها المجتمعاتِ الشيوعيةَ وما شاكلها. وبَدَهي أنه بالنسبة للإسلام لا فرق بين المسمَّييـْن (كونها متطرفة أو معتدلة)، فكلاهما في حقيقته مضاد للدين. و المقصود بالدين هنا الإسلام، فالإسلام والعلمانية نقيضان لا يجتمعان، ولا واسطة بينهما مطلقًا.
نشأةُ العلمانية:
نشأت العلمانيةُ في أوروبا إثر صراع مرير بين الكنيسة ورجال الدين فيها وبين جماهير الناس في أوروبا؛ ذلك أن رجال الدين في البلاد الأوروبية تحولوا إلى طواغيت مجرمين وسياسيين محترفين ونفعيين مستبدين تحت ستار الدين، فقد كان عيش القساوسة ونعيمُهم يفوق ترف الملوك والأمراء والأغنياء، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال! بل كانوا يبيعون المناصبَ والوظائف كالسلع، ويؤجرون أرضَ الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران. كما ودخلت الكنيسةُ أيضًا في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك لا على القيم والدين والأخلاق، ولكن على السلطة والنفوذ والمال. كما وقفت الكنيسةُ ضد العلم وهيمنت على الفكر وصادرت عقولَ الناس وتفكيرهم، وشكلت محاكم التفتيش، وقتلت العلماء من أمثال كوبرنيكوس الذي ألف كتاب “حركات الأجرام السماوية”، بل وحرمت الكنيسةُ أمثال هذه الكتب… إلى غير ذلك من الجرائم. كل ذلك وغيرُه حدا بالناس إلى الثورة على هذا الدين المحرَّف، وإلى ازدرائه والمناداة بفصله عن حياتهم.
وعليه، فإن العلمانية هي ردُّ فعلٍ خاطئ على دين محرفٍ وأوضاع خاطئةٍ كذلك، ونباتٌ خرج من تربة خبيثةٍ، وهي نتاج سيئ لظروف غيرِ طبيعية. ولا شك أنه كان من المفتَرض على أوروبا التي ابتليت بهذا الدين المحرف أن تبحثَ عن الدين الصحيح لا أن تكون مجتمعًا لا دينيًا.
إذًا فالعلمانية نشأت في ملابسات أوروبيةٍ بحتة، وليست ملابسات إنسانيةً عالمية، ومتعلقة بنوع معين من الدين لا بمطلق “الدين”، فكانت بذلك العلمانيةُ حلًا لمشكلة خاصة بتلك البيئة الأوروبية، وكانت بحق حلًا فاشلًا مناقضًا للفطرة البشرية، وحلًا مخفقًا بكل المقاييس في معالجة مشاكل الحياة الإنسانية، فقد جرَّت الويلات على الشعوب التي اعتنقتها، بل وعلى جميع الناس. فيجب دومًا أن لا نَغفل عن كون العلمانية نشأت حلًا تاريخيًا في سياق تاريخي لأمة معينة ليست الأمة الإسلامية.
موقف عموم المسلمين من العلمانية:
لو توجهنا بسؤال بسيط إلى عموم المسلمين حول ما يتبادر في أذهانهم فيما يخص العلمانية وماهيتها، لأجابت الكثرةُ الكاثرة وبدون تردد بأن العلمانية هي “فصل الدين عن الدولة”، وهي إجابة صحيحة نظريًا، لكن كلمة “فصل” هنا يعني بها الكثيرون “إنهاء واستئصال” الدين، أي إبقاءه بعيدًا عن الدولة. ولعل السبب الأكبر والعامل الأهم في ترسيخ هذا المفهوم لدى القاعدة العريضة هو تصرفات وطريقة خطاب “العلمانيين العرب” أنفسهم، حيث حصروا أنفسَهم في مهاجمة الإسلام بطريقة مباشرة عبر الدخول في عداء واضحٍ وصريح ومباشر مع أحكام الإسلام وأعلامه ومع الحركات الإسلامية، ولو كانت بعض هذه الأخيرة في بعض الأحيان تتبنى نفس أفكارها ولكنها مزينة برداء الإسلام!
الواقع السياسي للعلمانيين في البلاد الإسلامية:
يعيش العلمانيون العرب بالفعل، بحكم نشأتهم وطبيعة معتقَدهم، حالةً قريبةً من الانفصام والازدواجية، حيث قادهم الافتتانُ بالنموذج العلماني في الغرب لمحاولة نقله إلى البلاد الإسلامية كما هو، وتناسَوا نقطةً في غاية الأهمية، وهي أن القاعدةَ الأساسية في حقيقة العلمانية هي وجوب إبعاد السلطة الدينية المتمثلة في الكنيسة عن أمور الحكم (كما أسلفنا)، وهو الأمر الذي كان سائدًا في الغرب، في أوروبا تحديدًا، لا في بلاد المسلمين.
يدعي العلمانيون العرب دومًا مواجهة الأنظمةِ الديكتاتورية القمعية في المنطقة (إذ هم ديمقراطيون!)، ولكنهم في الحقيقة هم حلفاء وثيقو الصلة بهذه الأنظمة القمعية على أرض الواقع، إذ إن النخبة العلمانية والطغمة العسكرية المرتبطة بالغرب في معظم الدول الكرتونية القائمة في البلاد الإسلامية هي المسيطرة على زمام الأمور، وهي التي تتولى الحكمَ فيها، وهي الضامن لاستمرار الأنظمة العميلة. كما تقوم هذه الأخيرة دومًا باستغلال المعممين (مَن يسمَّون علماء) في كل قطر للقيام بدور “السَّنيد” للنظام واستعمال “سلطتهم الروحية” للتأثير على الجماهير للخضوع للنظام والتسبيح بحمد الحاكم (إلا من رحم الله)؛ لذا نجد العلمانيين العرب يهاجمون الإسلامَ عبر تركيز الصراع مع “السَّنيد” وإبراز كيف أن هؤلاء يوظفون الدينَ لأغراض سياسية، في حين يتحاشَون مواجهةَ الأنظمة نفسها.
تولى حكامُ ما بعد زوال الخلافة (العملاء) وضعَ الصروح العلمانية وتنشئة الأوساط السياسية في البلاد المستعمَرة وفق رؤية المستعمِر، ثم تولت التنظيماتُ المنبثقة عن مؤسسات الحكم، كالأحزاب والمنظمات الشبابية والجمعيات المرتبطة بالأنظمة، عمليةَ الترويج والتبشير بالنموذج الحداثي التقدمي ومهمةَ غرس بذوره. ولكن رغم كل الجهود المبذولة ظل المشروع العلماني يعاني الغربةَ الوجودية داخل المجتمعات في البلاد الإسلامية، وارتبط بقاؤه ببقاء الأنظمة العميلة. وكان واضحًا أنه، عاجلًا أم آجلًا، سيواجه هذا المشروع مقاومةً شرسةً ورفضًا قاطعًا من عموم المسلمين، وقد سرعت بهذا الرفض الهزائمُ المذلة التي جلبتها العلمانيةُ على الأمة. فأظهرت جميعُ التجارب في كل مرة يُخلى فيها بين الناس وبين مَن يختارون مِن الحكام أو مَن يمثلهم في البرلمانات (فيما يحلو للبعض تسميتُها بالتجارب الديمقراطية) أظهرت عصفًا بكل أحلام النخبة العلمانية المتغربة، كما وأفرزت تمسكًا واضحًا بكل ما هو نابع من رحم الإسلام ومن صلب العقيدة الإسلامية (ولو بشكل عام مفتوح). وهو الأمر الذي دفع سريعًا بالأقلية العلمانية للارتماء في أحضان الطغاة الديكتاتوريين والتحالف معهم، متنكرين لكل ما ظلوا طوال عقود يتشدقون به من ديمقراطية وحرية وتعددية! بل إنها لم تمانع أيضًا في إدخال البلاد في كل مرةٍ في دوامة عنفٍ جنوني من أجل إحداث أكبر قدرٍ من حالة الترويع والترهيب بغرض صناعة صدمةٍ اجتماعية تنحو بالجموع نحو التقوقع والنأي عن أية محاولة لتغيير الوضع السياسي القائم. ولعل ما أقدم عليه حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” (RCD) في فترة التسعينيات في الجزائر (عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات التشريعية) من رِدَّةٍ وانقلابٍ على كل قيم الديمقراطية (الزائفة) التي كان يدعو لها ومباركته ما قام به الانقلابيون، هو خير دليل على ما نقول؛ لذا فإن المشروع العلماني الذي يحمله هؤلاء العلمانيون لأبناء الأمة الإسلامية هو إذًا في حقيقته مشروع قمعي استبدادي خلافًا لما يدعون، إذ هم لم ولن يتمكنوا من حكم الناس في البلاد الإسلامية إلا بالحديد والنار وسطوة العسكر، كونه يناقض في الأصول والفروع ما يحمله المسلمون من قيم وأفكار ومشاعر، وما يرتضونه في حياتهم من قوانين وأنظمة. وعليه فإن وجود العلمانيين في البلاد الإسلامية وجود غير طبيعي، خصوصًا ممن كانوا مسلمين بالأصل، ما كان ليكون لولا الغزو الثقافي الغربي للبلاد الإسلامية، الذي تلاه الغزوُ السياسي – العسكري الذي مكَّن لهؤلاء فيما بعد، وجعلهم مكونًا من مكونات المجتمع يحملون هذه السموم في أنفسهم، ويدعون لها على مرأى ومسمع من الجميع.
العلمانيون العرب والإسلام:
لا يخفى على أحد أنه في كل مرة يواجَه العلمانيون العربُ في نقاشاتهم وأطروحاتهم، فأنت تراهم لا يتقنون سوى السباب والشتائم ومعاداة الإسلام بشكل سافر، كقولهم مثلًا إن الإسلام هو سبب التخلف!! بينما في حقيقة الأمر لا يملك هؤلاء العلمانيون العرب حصيلةً فكريةً ولا نموذجًا أو مشروعًا ذاتيًا للمجتمع، بل هم دومًا يقلدون الغربَ فيما يقول ويقوم به، إذ هم يتخذونه مثلًا أعلى ويتقربون إليه زلفى. وكل ما يقدمونه يناقض عقيدةَ الأمة وشريعتَها وحضارتها ومفاهيمَها وتاريخها وعراقتَها ومطالبها. كما وتجدهم في كل مرة قد وجَّهوا، عند كل تحرك شعبي، كل جهدهم وقوتهم لمساندة الأنظمة في قمع الشعوب، بل ودأبوا بشكل ممنهج ومستمر على ربط تخلف الأمة وتراجعها بتمسكها بالدين الإسلامي وما في التراث من أعراف وتقاليد متوارَثة عبر العصور. كل ذلك نكايةً في تيارات “الإسلام السياسي” (عدوها اللدود)، وبأسلوب خبيث متعمد، كأن أنظمة الحكم القائمةِ في البلاد الإسلامية اليومَ هي أنظمة إسلامية تطبق الشريعةَ الإسلامية!!.
كما يتعمد العلمانيون العرب الخلطَ الدائم والمقصود بين الدين الكَنسي والدين الإسلامي، ويتناسون باستمرار أنه بينما كانت سيطرةُ الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد الأمور في أوروبا سببًا رئيسيًا في تقهقرها وغرقها فيما يُعرف بقرون الظلام، كان الالتزام بالشريعة الإسلامية وتطبيقُها السببَ الرئيسي في استمرار نهضة الأمة ورقيها وتفوقها، بل وفي اتساع رقعة دولة الخلافة وتقدمها وسيطرتها على أراضٍ شاسعةٍ امتدت عبر قارات ثلاث، كما أثرت حضارةُ الإسلام الشامخ على البشرية كافة، وأمدت العالـَمَ بما لا يمكن حصره من النتاج المادي والعلمي والفكري والثقافي في كافة المجالات.
العلمانيون العرب وثورات الربيع العربي:
لم تنجح ثوراتُ (لربيع العربي)، والحراك الشعبي الذي رافقها، في تعرية شيء كما فعلت بالنخب العلمانية ودورها اللئيم في البلاد الإسلامية، فقد عجلت بإحداث حالة الطوارئ في صف هذه الأقلية الحانقة على مبدأ الأمة ودينها وحضارتها، وأجبرتها على مغادرة جحورها ولعب آخر أوراق البقاء. ثم جاءت أحداثُ مصر الأخيرة لتسلط الأضواء بشكل لافت على التشابه مع ما جرى قبل ذلك في الجزائر في أجواء رهيبة من التعتيم الشامل والظلام الدامس، جراء غياب ترسانة الإعلام الحالي في تسعينات القرن الماضي (أي في حالة الجزائر).
إن ما يبعث على التساؤل والدهشة حقيقةً هو هذه القدرة الرهيبة من النخبة العلمانية، في الحالتين، على الاجتراء على دماء المسلمين والاستخفاف بهم وبما يريدون، أي بما تريد الشعوبُ الإسلامية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ساند غالبيةُ العلمانيين الانقلابَ العسكري في مصر، وباركوا ما ارتكبته قواتُ الأمن المصرية بدعم من الجيش المصري من مجازر فظيعة بحق العزل المعتصمين في ميداني رابعة والنهضة وبقية أنحاء مصر، فأيدوا سفكَ الدم الحرام وقتلَ المئات من المعتصمين وقمعَ المحتجين على ارتكاب تلك الجرائم واقتحام المساجد والتعدي على حرماتها وعلى العزل المحتمين فيها؛ ما يدل على أنها أقلية منبوذة تحمل حقدًا أعمى على كل ما ينبع من الموروث الإسلامي، ويدل أيضًا على ارتباطها دومًا كما أسلفنا بمنبعها الغربي، وهو ما دفع إلى أن تتولد لديها حالة نفسيةٌ رهيبة تغالي في استباحة الآخر المتمسك بالإسلام كنظام حكمٍ تحديدًا!!.
الخلاصة:
لن يبذل المتتبع لتاريخ العلمانيين في البلاد الإسلامية، وخاصة العربية منها، كبيرَ جهد ليربط بينهم وبين الاستعمار، وإن حاول بعضُ أساطينهم بعث جسور خيالية مصطنعة لهم في التاريخ الإسلامي من خلال البحث في التراث الفكري عن أدلة واهية يسندون إليها فكرتهم، لكن الواقع والحقيقة والتاريخ يدل على عكس ذلك. فالمسلمون، عبر قرون، قد حكموا بشريعتهم واحتكموا إليها دومًا قبل الاستعمار. وحتى إبان الاستعمار فقد رفض المسلمون إجمالًا كل النظم والقوانين والتشريعات الوافدة من الغرب. وفي الفترة التي أعقبت ما يسمى الاستقلال تسلمت النخبةُ العلمانية العميلةُ مقاليد الحكم والتسيير في البلاد العربية والإسلامية، وهي التي كانت قبل ذلك صُنعت منها الأوساطُ السياسية في جميع الأقطار، مدعومةً في ذلك من طرف الأجنبي المستعمِر البغيض ومستفيدةً من وضع الشعوب الرازح تحت وطأة الجهل وغياب الوعي السياسي. فجاء هؤلاء الحكام الجدد مطبقين النظم الأجنبية الدخيلةَ في عملية تهدف إلى إحلال نظم اجتماعيةٍ واقتصادية وثقافيةٍ جديدة، بعضها يساري اشتراكي، وبعضها ليبرالي رأسمالي، فكانت كلها في جميع الأحوال تناقض العقيدةَ الإسلامية، اعتُمد في تثبيتها وترسيخها على سلطان الدولة وبطش الجند وأجهزةِ المخابرات.
والحقيقة هي أن النخب العلمانيةَ في البلاد الإسلامية تطبعت بكل طبائع المدرسة التي نهلت منها، فالشعوب الأوروبية التي أصمت آذان العالم بتغنيها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي نفسها التي اقترفت أبشعَ الجرائم والمجازر خلال القرنين الماضيين، ومارست القتلَ والعنصرية والاستعباد في جميع القارات، وفي كل مكان وطئته دفعت بالسكان ليصبحوا مجرد أهالٍ (بشر من الدرجة الثانية!) محرومين من أبسط حقوق الحياة، واعتبرت نفسها طبقةً متحضرةً، ومَن دونها مجرد متوحشين متخلفين. وعلى نفس النهج سار العلمانيون العرب بعدها.
بقيت مسألة، وهي هل سيكون لهؤلاء العلمانيين تأثير في ظل دولة الخلافة القادمة؟ وهل سيكونون حجرَ عثرة في طريق نهضة المسلمين؟. إن المدقق في واقع هؤلاء الشواذ يجد أنهم صنيعة الاستعمار وربائبه. فهم حتمًا سينكفئ تأثيرهم ويزول شرهم وستخفت أصواتهم بمجرد قيام كيان حقيقي للمسلمين. إذ في ظل دولة الإسلام سيفك ارتباطهم بالأجنبي، وتنقطع حبالهم معه ووسوستُه لهم، فلربما يبصرون حينئذ نورَ الحق المبين، ويؤوبون إلى حضن أبناء الأمة المسلمين، ويكونون إن شاء الله من المهتدين. ولنا في بعض علمانيي سوريا خير مثال في ثورة الشام، إذ بمجرد تصاعد وتعالي الأصوات المنادية بتحكيم الإسلام وشريعته أصيب هؤلاء بالبكم، بل أصبحوا يجارون الناس في مطالبهم ويتمسحون بالإسلام ويقولون “إن الإسلام هو تاريخ هذه الأمة، ولا يمكننا الاستغناء أو التخلي عنه”!!!
قال الله تعالى مخبرًا عن أمثال هؤلاء ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى...﴾ [آل عمران111]. وفي الختام، نرجو من الله جل شأنه أن يعزنا بالإسلام، إذ لا عز لنا إلا به، وأن يُكرمنا بعودة دولة الخلافة التي ستعيد للمسلمين عزَّهم ومجدهم. قال تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُوْنَ).